TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مراثي مؤيد الراوي

مراثي مؤيد الراوي

نشر في: 11 مايو, 2014: 09:01 م

الخلطة الستينية لأدباء العراق كانت ماركسية/ وجودية بصورة تصلح للوحة تعبيرية ألمانية، لا بفعل المعترك السياسي/ الفلسفي وحده، بل بفعل معترك الشعر/ الرسم، الذي كان يستحوذ على هوى التعبيريين. معظمنا كان شاعراً/ رساماً. مؤيد الراوي كان في المحور. وكأن النحافة، والطول، وتقطيبة الوجه الرافض، وانتصاب الشعر الكث، وحركة الكف التي تسبق الكلام شبه المرتّل تليق بالمحور، لا بالمدار. مُعززةً بمواهب تتدفق من كيانه عفو الخاطر: كتابة، شعر، رسم، تصميم، صحافة، فكر سياسي، وإصغاء ملحاح للنذير.
وضع لي لوحة غلاف مجموعتي الشعرية الأولى "حيث تبدأ الأشياء" (1968)، بعد أن صممها، وخط عنوانها الشاعر/ الرسام، الراحل إبراهيم زاير. ولم يكن مؤيد يتحمس للانتساب لأي من مواهبه تلك. حين خرجنا لبيروت في 69 فضل الانغمار في صحافة المقاومة الفلسطينية، غير معني ومتأثر بالتعتيم الإعلام الذي خططت له سلطة البعث ضد الشعراء العراقيين منذ تلك المرحلة، في العراق وعلى امتداد العالم العربي كله. وكأن هذا التعتيم ييسّر لديه رغبةً في تعتيم ذاتي، يجده كفيلاً، ربما، بإنضاج صوت المبدع فيه.
وكان على حق، لأن كتابه "ممالك" (دار الجمل2010)، ويضم قرابة 80 من "قصائد النثر"، معظمها طويلة، يعطيك محصّلةَ صمت الإنضاج الطويل هذا. القصائد في معظمها مراثٍ، للذات، للآخر، للوطن وللحياة. وهي مراث تنتسب إلى صوت الحكمة، لا صوت العاطفة. بالرغم من أن العاطفة، حين تُقبل، تقبل طليقةً، كريمة:
صوب البحر ذاهبون والمياه واسعة تثير المخيلة.
العمرُ في البلاد موقوفٌ على ما سيأتي: وشمٌ أو ندبةٌ تذكرهم بالماضي.
ينزلون إلى البحر بسلالٍ فارغة من اليقين،
الموانئ بعيدةٌ مُبهمةٌ، وللأنواء مزاجٌ كحجرِ القيامة.
ذاهبون إلى البحر دفّانٌ بكفن من زبَد.
من قصيدة "سفن المحبَطين"، وهي ثاني مرثية طويلة لمهاجرين مُهرَّبين من العراق والسينيغال غرقوا في طريقهم إلى الغرب. هناك مرثية لكاتب القصة جليل القيسي، وأخرى للشاعر جان دمّو، وثالثة للشاعر سركون بولص، وعشرات للمدن المنتهكة، للموتى والأحياء في منافيهم. مرثية النفس لا تخلو من ظلال الآخر. فالشاعر حين يتجول إنما "في جثمانه المتكاثر، حاملاً أشباحه"، لأنه لا ينفرد مع عذابه في عزلة، فهو أكثر من واحد وشبحه أشباح. الشاعر ليس رومانتيكياً لينفرد وحده، بل هو وليد الأذى الذي أحاط بكثيرين. تردُدُ صدى من ترددات يمثلها الأحياء والموتى: أم حسين، فاطمة، الطفل حسين، أحمد ج..
"قصيدة النثر" هنا تأخذ راحتها على يدي مؤيد الراوي، وتولد مبرأةً من أي انتساب للظاهرة التي تشغل المحيط الأدبي العربي. الظاهرة في هذا المحيط أماتت "شخصية" الصوت، وكأن نصوصها تطبيقات لموقف نظري موحّد. "قصيدة النثر" هنا بالغة "الشخصية" حدَّ الندرة. وهي طبيعة في النص الأصيل. في كلمة الغلاف الأخير يكتب الراحل سركون بولص بأن مؤيد منذ عرفه "مصرٌّ على قتل الغنائية، والابتعاد عن التفعيلة." وأنا أجد العكس، وهو مصدر حماستي. فأجمل ما في نص مؤيد غنائيته. ولكن هذه الغنائية لا تصدر عن عاطفة مائعة، بل عن حكمة خفيضة الصوت، متروية. ولذلك غابت عن نباهة سركون:
تلك الرقيمات من طين الأنهار تركتَها لُغزاً لا تُحلّ رموزه.
ليس من العدل أنْ توصَف: قديس مشاكس كتابه مُبهمٌ ووصاياه قبض الريح.
ليس من الحكمة أن تُختصر: صوتٌ أضاع رنينه في متاهة الضباع..
كان فتىً مُلتبساً مرَّ كخيالٍ على العصر، ولمْ يقرع الأبواب." (قصيدة "جان دمّو")
أما الإصرار على الابتعاد عن التفعيلة فلا أحسبه من هموم "قصيدة النثر" هذه. فهي بدأت من حقل جديد غير حقل الشعر الذي يلتزم قاعدة في الوزن، وغير حقل النثر الذي يلتزم السياق المنطقي. خرجت جديدةً من رحمِ خيالٍ وعاطفةٍ دفينين في اللغة، مُطلقةَ السراح من الإيقاع والمنطق، وقادرةً على الغناء دونهما، دون أن تكون ذات قصدية في ذلك. فأنت حين تُصر أن تبتعد عن التفعيلة، لا بد أن تكون أولاً صاحب تفعيلة، أو مُنشغلاً بها على الأقل. وهذا الأمر لم يكن من مشاغل "قصيدة النثر"، ومشاغل قصيدة نثر مؤيد الراوي بالتحديد. قصيدة "ممالك" لها قوانينها الداخلية، التي إذا رجعت لجذر فلجذر اللغة العربية ذاتها. هناك تكمن طاقة الخلق الخيالي لولادتها، وولادة أي فن لغوي جديد. ولذلك قلت أن القصيدة في "ممالك" قد أخذت راحتها على يدي مؤيد الراوي، لأنها قصيدة لا تنطوي على "سوء طوية"، تجعلها وليدة "إصرار على الابتعاد عن" أو "على الانتصار لـ..". إنها باختصار لا ترتضي لنفسها أن تكون "أدباً".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram