نوري الرَّاوي أحد أبرز رواد الفن التَّشكيلي العِراقي، وهو مِن البقية الباقية مِن ذلك الجيل المؤسس، والرَّاوي – لمَن لا يعرف جغرافيا العِراق- لا صِلة له بالرِّواية مِن أحاديث أو أخبار، فهناك العديد ممَن أخذت أُسرته هذا اللَّقب، إنما راوينا هو
نوري الرَّاوي أحد أبرز رواد الفن التَّشكيلي العِراقي، وهو مِن البقية الباقية مِن ذلك الجيل المؤسس، والرَّاوي – لمَن لا يعرف جغرافيا العِراق- لا صِلة له بالرِّواية مِن أحاديث أو أخبار، فهناك العديد ممَن أخذت أُسرته هذا اللَّقب، إنما راوينا هو نسبة لمدينة راوة، التي تقع في أعالي الفرات. ولد الرَّاوي هناك عام 1925.
كان مِن الفنانين المطبوعين، أي جمع بين الميول والدِّراسة الفنية، أقول هذا لأن هناك مَن لديهم ميل ولم يدعموه بدراسة أكاديمية، فبسهولة ضاع الهاجس الفني.
نقرأ في سيرته تاريخاً مشرقاً مِن الدِّراسة والخبرة، تخرج مِن دار المعلمين العالية عام 1941، وقبل أن يأخذ الدبلوم مِن معهد الفنون الجميلة – بغداد عام 1959 قُبل عضواً في جمعية التَّشكيليين العِراقيين في 1956، ثم رئيساً لها في ما بعد، قَدم برامج في الفن التَّشكيلي لنحو ثلاثين عاماً (1957-1987)، حصل على زمالة دراسية لدراسة مونتاج المطبوعات وديكور البرامج التّلفزيونية ببلغراد (1962- 1963).
أسس المتحف الوطني للفن الحديث وأول مدير له (1962- 1974). له زمالة في جماعة الرُّواد(1964-1979) التي يترأسها الفنان القدير فائق حسن (ت 1992)، رئيس جمعية التَّشكيليين العراقيين، وعضو اللجنة العليا لمهرجان بغداد العالمي التَّشكيلي (1986-1994)، نال وسام الاستحقاق العالي عام 1993، ولقب رائد تشكيلي عام 1993، وغير هذا من نشاط فني كُلّل بعدة معارض ومؤلفات اقتصر على هذا المجال.
ابتلى نوري الرَّاوي لتشابه الاسم مع ثاني وزير ثقافة، بعد أبريل (نيسان) 2003، وكُتب ضده وهو غير المعني، فراوينا فنان ومثقف، أما الرَّاوي الوزير فكان ضابط شرطة ثم تاجر، لكن الكفاءة ليس لها وجود في اختيار وزير أو مدير عام، وسيسجل التَّاريخ مِن المضحكات في أمر المناصب، وأراد الرَّاوي ضابط الشَّرطة الوزير، في وزارة إبراهيم الجعفري، أن يقدم نفسه متديناً، مماشاة مع الأجواء، فقال إن هؤلاء المثقفين لا يعترفون بالمثقف إلا أن يعاقر الشَّراب وكذا وكذا، لكن كيف للمثقفين أن يطمئنوا لوزير لا ناقة له ولا جمل بالثَّقافة!
محنة نوري الرَّاوي أنه لم يغادر العِراق، ولم يعمل في السِّياسة، فحاول البقاء مهادناً وساكتاً، ومَن يسكتُ يسلم آنذاك، والرَّجل لم يُقدم نفسه مناضلاً ضد العهد السَّابق، مثلما كَذِبَ الآخرون. على أية حال نوري الرَّاوي في الزَّمن السَّابق والحالي لا يقوى على مغادرة العِراق، والعيش في المهاجر، وإذا أخذ وسام الاستحقاق في العهد السَّابق، فليس لنا إلغاء ذلك العهد برمته، فكانت فيه ثقافة وعلوم وشوارع نظيفة وكوادر علمية، وكنا في خطابنا المعارض كي نهدمه لم نذكر أية ميزة، لكن الآن انتهى ذلك العهد فعلينا أن نتحدث بمنطق آخر، نذكر السلبي مهما عظم والإيجابي مهما صغر.
نوري الرَّاوي لديه مُتحف كامل مِن أعماله، ومما حواه أرشيفه، وهناك مَن غدر به مِن تُجار الفن، أما في الوضع الحالي فأخذ هذا يدنيه وذاك يُقصيه، وهو كما كان في السابق لا يقوى على الرحيل، وهو يحمل على كاهله ثمانية وثمانين عاماً عاشها بين راوة وبغداد، ويريد الاطمئنان على ما لديه مِن أعمال جديرة بالحفاظ عليها. مِن المخجل أن يؤخذ على الرَّاوي أنه ظل موظفاً في العهد السَّابق، أو فناناً بارزاً، وأنه لم يسجن أو يستشهد أو يرسم لوحة للمعارضة، ونحن نسأل وهل قُرب مَن قارع النِّظام السَّابق، مِن الفنانين والأدباء، لثلاثين عاماً؟
إن محنة الإرث الفني العراقي، ومنه محنة نوري الرَّاوي واحدة، تحكي أن انقلاباً كبيراً يجرب ببغداد، لعزل هذه المدينة عن تاريخها، ومنها فنها التَّشكيلي وإثرها الحضاري. انقلاب لتمزيق ذاكرة هذه المدينة والتَّأسيس للوهم، فبيت الحكمة ما عاد بيتاً للحكمة، والجامعات سجلت قاعاتها بأسماء لا صلة لها بتاريخ العلم العراقي، المشكلة أن مثل نوري الرَّاوي يُعامل بعنعنات التَّاريخ وجزء كبير منه أن الرَّجل ليس النَّمط المرغوب فيه، فليبق بعيداً مع ما لديه مِن إرث فني، لأن هذا الإرث إرث صنمي بالنِّسبة لهم.
هناك خوف وقلق على إرث العراق الفني والتَّشكيلي، لأن هذه الكائنات معبأة أدمغتها بالهدم، فهي تتصور أن ذلك الإرث إذا لم يجسد مقالتها الدِّينية فهو بحكم الكفر، وبما أنها كانت تسمي النِّظام السَّابق بالكافر فقطعاً أن كلَّ ما يمتُ إلى تلك السَّنوات فهو في منطقها الكفر بعينه، وربما امتد الوهم إلى تأسيس بغداد كعاصمة العام 145 هـ، فتلك العصور كانت جاهلية في جاهلية، وتلك هي الثَّقافة التي قرأوها ورضعوها مِن كتب سيد قطب (اعدم 1966)..
عـــن مجلـــة المجلـــــة