TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > هي - ها - ت

هي - ها - ت

نشر في: 18 مايو, 2014: 09:01 م

تنهيدة أولى .
إلى أين الهرب من العراق وأخبار العراق إلا إليهما ؟ أين المفر من حلبة صراع شرس محتدم لإسقاط الخصوم بالضربة القاضية والفوز بالغنيمة ، كلها او بقضمة منها ، ما من حيف على دم وأشلاء هنا ، ودموع هناك . ما لي اشهد صراع ديكة وغربان ، واقتتال ذئاب ، وزيغ ثعالب وتكالب بنات آوى . .. ما لي لا اسمع هديل حمائم او صدح بلابل ، او تغريدة هدهد ، او همهمات قافلة نوق ؟
تنهيدة ثانية .
يوم كان الصباح بنكهة القشطة وطعم الحليب . والليل بلون عباءة أمي الحالكة السواد . كان القطار حلما عذبا لأطفال الأسرة ، أمنية تلبد في الصدر طوال اشهر السنة الدراسية ، وتطل بلجاجة حين يقترب موعد العطلة ويبدأ لفح الهجير ، ولصيف البصرة غلائل من شواظ لا يعرفها إلا من إحترق بلظاها ، حينها كان القطار قطارا حقا ، ونحن الصغار نستبق للفوز بمقام قرب النافذة ، وحين تبدأ الأرض تميد والرصيف يغادر مكانه بإتجاه معاكس . كنا نصغي لصوت رخيم كنشيد مدرسي نردده بجذل: رايحين بغداد … رايحين بغداد .. بغداد رايحين . بغداد…
وكنا نعجب كيف يمكن للقطار كشف وجهتنا . ليشاركنا جذلنا وبراءة أعمارنا .
الآن .. بعد ان بات طعم الأيام مجا ، وغدا لون النهار بلون القهوة . صرت اعتلي دكة القطار مرات ومرات ، فلا يواتيني ذاك الصهيل العذب ، ولا تتناهى لسمعي غير حشرجات مبهمة : ارتطام الحديد بالحديد.
تنهيدة ثالثة :
مسرعة أتسلق قطارا مزدحما يحملني لمحطة الاقتراع — البعيدة— لأمارس حقي بالانتخاب ،(!) سأختار الأكفأ، والأجدر . والأنزه ،، و،، و،،أتحسس أوراقي الثبوتية كما يحرص محروم على ليرة ذهب :جواز سفر قديم . شهادة جنسية اقدم تاريخا ، وثيقة أحوال مدنية تهرأت واصفر لونها من طول الخزن . اعرضها بكبرياء من يمتلك زمام وطنيته .. يقلبها الموظف بلا أباليه واضحة : هذي لأ . هذى لأ .. وهذى ايضا لأ .. لا بد من وثائق جديدة .. لا ، متأسف لا يمكنك الانتخاب . باستعطاف أسال : ألا تكفي هذي الأوراق لإثبات عراقيتي؟ لا أشكك بعراقيتك ، ولكني مقيد بضوابط التعليمات .
مخذولة أغادر المبنى ، اغذ السير نحو محطة القطار . — أتحسس أوراقي الثبوتية وابتلع ريقي المر .
الركاب يتسابقون للفوز بمقعد . يقلبون الصحف المجانية ، يحل بعضهم كلمات متقاطعة . نفر يعاقر جهازه الإلكتروني . فتاة كل ما فيها اخضر : شعرها فستانها أظافرها كحل عينيها ،جوربها والحذاء ٠
أحاول عبثا إيجاد علاقة بين هؤلاء وبيني ، علاقة بين خيبتي الحاقة ونوالي المزعوم ، بين ما قيل وما يقال ، علاقة بين التي واللتيا ، بين لي ولكم ، بين الإدعاء والخديعة ، علاقة بين ماذا ولماذا وكيف ومتى وإلي متى… بغتة ينتزعني صوت عذب لطفلة تخاطب جدتها : جدتي ، جدتي ، ألا تسمعين ما يقوله القطار ؟! يقول : شو . كو .. لا .. ته .. شوكولاته . اغمض عيني إشفاقا علي من دموع ترقرقت بين الجفن والمقلة ، سؤال الطفلة ايقظ هواجس غافية وحث الذاكرة ، تستدعي لازمة قديمة ، اسمع ارتطام الحديد بالحديد يسرب لي صوتا منقوعا بالخيبة ، بالخذلان ، وبدلا من ذاك الرنين العذب (رايحين بغداد .. رايحين بغداد ) تتناهى همهمة كحشرجة محتضر : ه ،، ى ،،ه،، ا ،، ت —-هي ،، هات ، هيهات ، هيهات ، هات هات ،، هيهات .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram