تنهيدة أولى .
إلى أين الهرب من العراق وأخبار العراق إلا إليهما ؟ أين المفر من حلبة صراع شرس محتدم لإسقاط الخصوم بالضربة القاضية والفوز بالغنيمة ، كلها او بقضمة منها ، ما من حيف على دم وأشلاء هنا ، ودموع هناك . ما لي اشهد صراع ديكة وغربان ، واقتتال ذئاب ، وزيغ ثعالب وتكالب بنات آوى . .. ما لي لا اسمع هديل حمائم او صدح بلابل ، او تغريدة هدهد ، او همهمات قافلة نوق ؟
تنهيدة ثانية .
يوم كان الصباح بنكهة القشطة وطعم الحليب . والليل بلون عباءة أمي الحالكة السواد . كان القطار حلما عذبا لأطفال الأسرة ، أمنية تلبد في الصدر طوال اشهر السنة الدراسية ، وتطل بلجاجة حين يقترب موعد العطلة ويبدأ لفح الهجير ، ولصيف البصرة غلائل من شواظ لا يعرفها إلا من إحترق بلظاها ، حينها كان القطار قطارا حقا ، ونحن الصغار نستبق للفوز بمقام قرب النافذة ، وحين تبدأ الأرض تميد والرصيف يغادر مكانه بإتجاه معاكس . كنا نصغي لصوت رخيم كنشيد مدرسي نردده بجذل: رايحين بغداد … رايحين بغداد .. بغداد رايحين . بغداد…
وكنا نعجب كيف يمكن للقطار كشف وجهتنا . ليشاركنا جذلنا وبراءة أعمارنا .
الآن .. بعد ان بات طعم الأيام مجا ، وغدا لون النهار بلون القهوة . صرت اعتلي دكة القطار مرات ومرات ، فلا يواتيني ذاك الصهيل العذب ، ولا تتناهى لسمعي غير حشرجات مبهمة : ارتطام الحديد بالحديد.
تنهيدة ثالثة :
مسرعة أتسلق قطارا مزدحما يحملني لمحطة الاقتراع — البعيدة— لأمارس حقي بالانتخاب ،(!) سأختار الأكفأ، والأجدر . والأنزه ،، و،، و،،أتحسس أوراقي الثبوتية كما يحرص محروم على ليرة ذهب :جواز سفر قديم . شهادة جنسية اقدم تاريخا ، وثيقة أحوال مدنية تهرأت واصفر لونها من طول الخزن . اعرضها بكبرياء من يمتلك زمام وطنيته .. يقلبها الموظف بلا أباليه واضحة : هذي لأ . هذى لأ .. وهذى ايضا لأ .. لا بد من وثائق جديدة .. لا ، متأسف لا يمكنك الانتخاب . باستعطاف أسال : ألا تكفي هذي الأوراق لإثبات عراقيتي؟ لا أشكك بعراقيتك ، ولكني مقيد بضوابط التعليمات .
مخذولة أغادر المبنى ، اغذ السير نحو محطة القطار . — أتحسس أوراقي الثبوتية وابتلع ريقي المر .
الركاب يتسابقون للفوز بمقعد . يقلبون الصحف المجانية ، يحل بعضهم كلمات متقاطعة . نفر يعاقر جهازه الإلكتروني . فتاة كل ما فيها اخضر : شعرها فستانها أظافرها كحل عينيها ،جوربها والحذاء ٠
أحاول عبثا إيجاد علاقة بين هؤلاء وبيني ، علاقة بين خيبتي الحاقة ونوالي المزعوم ، بين ما قيل وما يقال ، علاقة بين التي واللتيا ، بين لي ولكم ، بين الإدعاء والخديعة ، علاقة بين ماذا ولماذا وكيف ومتى وإلي متى… بغتة ينتزعني صوت عذب لطفلة تخاطب جدتها : جدتي ، جدتي ، ألا تسمعين ما يقوله القطار ؟! يقول : شو . كو .. لا .. ته .. شوكولاته . اغمض عيني إشفاقا علي من دموع ترقرقت بين الجفن والمقلة ، سؤال الطفلة ايقظ هواجس غافية وحث الذاكرة ، تستدعي لازمة قديمة ، اسمع ارتطام الحديد بالحديد يسرب لي صوتا منقوعا بالخيبة ، بالخذلان ، وبدلا من ذاك الرنين العذب (رايحين بغداد .. رايحين بغداد ) تتناهى همهمة كحشرجة محتضر : ه ،، ى ،،ه،، ا ،، ت —-هي ،، هات ، هيهات ، هيهات ، هات هات ،، هيهات .
هي - ها - ت
[post-views]
نشر في: 18 مايو, 2014: 09:01 م