سعاد جروسrnحمل لي لقائي الاول مع هادي العلوي كثيرا من الدهشة المصحوبة بالمفاجأة. لم أتوقع ابدا ان المفكر والباحث الكبير الذي طالما سمعت وقرأت عنه، على المستوى من البساطة والالفة والتواضع. لقاؤه كان احدى الامنيات التي رافقتني لسنوات عديدة، منذ قرأت له اول مرة عندما كنت طالبة في الثانوي، وقادت المصادفة الى احد كتبه ليكون اهم الاسباب التي دفعتني لقراءة الكتب الفكرية والتراثية
خاصة تلك الحاملة لاسمه، لانها من الكتب التي اصطدمت طروحاتها الجديدة ومنظومتي المدرسية آنذاك. كان شغفي بما يكتبه يزداد يوما بعد آخر وصار حلم اللقاء يرسم لي ملامح ذلك الباحث وكأنه مارد فكري، الحوار معه يتطلب بروتوكولات ثقافية رفيعة المستوى. وقد تكرست تلك الصورة في مخيلتي بعد ان امتهنت الصحافة وتعاملت مع المثقفين والمفكرين، الذين يغلقون ابوابهم في وجوه الصحفيين الشباب اذا لم يأتوا عن طريق معارف او اصدقاء يمهدون طريق اللقاء الاول. اللقاء الذي غالبا ما يكون مجالا لاستعراضات مختلفة حسب شخصية الصحفي وجنسه، او حسب الوسيط الذي رتب اللقاء. rnمع هادي العلوي كان الامر مختلفا. خابرته في المرة الاولى لاحصل على موعد، لم يتردد في ذلك ولم يسأل عن معلومات تفيده في معرفة اهداف اللقاء، اخبرته انني فقط سأتعرف عليه ومن ثم نحدد محاور لحوار صحفي. اما السؤال الذي وجهه الي وادهشني وخلته مزحة هو، كيف سآتي الى مشروع دمر حيث يسكن، هل من عامة الشعب؟؟ ام في سيارة خاصة؟؟. توقفت كثيرا عند كلمة عامة الشعب وشعرت بعمق المسافة التي تفصلني عن ذلك المفكر مما زاد من حرجي للقائه. ترى كيف سأتكلم مع ذلك المارد الفكري؟؟rnكانت المفاجأة عندما طالعني الشيخ ابو حسن (هادي العلوي)، سليل الحضارتين بقامته المتوسطة الطول والجسد الناحل والشعر الابيض والبشرة السمراء وملامح وجه قديم وحزن عريق يتوارى تحت غلالة من المرح الطفولي الطريف. بدا سعيدا بالزيارة ورحب مرات عدة بي وكان يعقب على كل فكرة أقولها معطيا انتباهه لكل كلمة وكأن كل ما اقوله مهما. rnادهشتني تلك الرحابة والبساطة، قلت له في سري: يا أستاذ هادي جئت للحوار وما عندي غير الاعجاب. بما تكتب، ليس ثمة ما اريد الاستفهام حوله او مناقشته معك، كل ما تقوله اتفق معك عليه. بدأت اجول بنظري في منزله بحثا عن ملاحظات تكون معبرا للحوار، وعندها سألت نفسي لم لا يكن الحوار حول مظاهر الحياة اليومية المعاصرة في الشارع والبيت والعمل. كيف يعيشها، كيف ينظر الى ابناء جيلي؟؟ طرحت عليه الفكرة فوافق قائلا: اكتبي الاسئلة وحددي ما تريدين طرحه وانا مستعد للتحاور. الا ان بداية الحوار لم تنطلق من تلك الفكرة كون الجلسة الاولى تمت قبل قراءتي لكتابه مدارات صوفية الذي كان حديث الصدور. البداية انطلقت من اختلافي معه حول مثالية الافكار المطروحة في المدارات، ورغم اعتيادي على الصدمات التي تسببها كتابات العلوي وافكاره بدا الامر اكثر تطرفا في هذا الكتاب، وتحديدا الافكار الخاصة بالشعب والفقراء والمرأة، وتصوراته عن مجتمعه المشاعي. كان لمواجهته كل انواع القهر والاستبداد الاجتماعي والسياسي اثر في انحيازه للمستضعفين واعفائهم من المسؤولية تجاه ما يعانون لدرجة التنزيه، لان معاناتهم ناتج الانظمة السياسية الفاسدة. مثلا الشحاذ كما يقول: (ليس متطفلا بل فقير عاجز عن العمل او عاطل لم يحصل على عمل وهو لم يلجأ الى الشحاذة تطوعا وهواية، حيث لا يمكن للانسان ان يفقد كرامته بسهولة لولا انه يخير بينها وبين الموت جوعا. فالشحاذ ليس متطفلا وانما المتطفل هو الحاكم والتاجر والمثقف، هؤلاء يأكلون حقوق الناس ويدفعونهم الى الشحاذة.). وكان النقاش يحتد بيننا فأقول له لن نتفق ابدا. يجيب: هذا مؤكد لاننا من جيلين مختلفين وثقافة مختلفة، وبعض آرائك من نتاج التأثر بالثقافة البرجوازية. rnورغم تلك المثالية المتطرفة احيانا واختلافي معه وجدت نفسي مرغمة على تبجيله ومناداته (شيخنا) وهي كلمة لم ترد في قاموسي يوما قبل التعرف اليه. وذلك مبرر لدى معاشرتي ومعايشتي هادي العلوي. لأنه من الاشخاص النادرين (اذا لم يكن الوحيد) الذين يتملكون افكارهم حتى تتملكهم، فيعشونها بكل صدق واصرار، لاثبات ان ما يدعون اليه ليس مثالية. وحدانية الفكر والسلوك خاصة نادرة جدا في مجتمعنا وعلى كافة المستويات، فالازدواجية واحيانا تعدد الشخصية الواحدة نوع من الذكاء الاجتماعي او الدبلوماسية، يفرضه النمط الحديث للحياة، الدافع اليه استمرارية الفرد بممارسة دوره في المجتمع دون عزل او اقصاء. الامر عند هادي كان مختلفا، الحق حق واحقاقه لا يكون الا بالحق. لا دبلوماسية ولا مجاملة لانها كذب ورياء. وهذا ما جر عليه أزمات صحية كثيرة، نتيجة لرفضه التعامل مع تلك السلوكيات ومحاربتها، وعادة تكون روح الحق اكبر من طاقة الجسد. تألم لألم الفقراء وبكى معهم وكم من مرة أخذ الى غرف الانعاش بعد الاجتماع بفقراء ومشردين كانوا يأتون اليه طلبا للمساعدة، كونه انشأ لهم جمعية سماها جمعية بغداد المشاعية، تعمل على جمع التبرعات للمحتاجين والمشردين العراقيين، أرامل ويتامى وجياع. هؤلاء كانوا أهله ومحور تفكيره، لهم نذر نفسه عندما عاهد والدته التي ماتت من الفقر بأن يناضل من أجلهم حتى يموت. وهادي لم يخل بالعهد وما هجر الفقر الذي لازمه واخوه واخته وا
الايام الاخيرة لهادي العلوي
نشر في: 30 سبتمبر, 2009: 05:37 م