في ساعات الظهيرة، ساعة ترتفع درجات الحرارة وتخف زحمة الناس في سوق الهنود بالعشار، تخرج سيدة مسيحية من دارها بمحلة بريهة صحبة بنيات من صلبها، المرأة تضع قماشة ملونة، صغيرة على رأسها، هو نوع من حشمة من تخطين الستين عاماً من النساء، يسمّيها البعض بالحجاب، الذي لا تلتزم به البنيات فهن حاسرات وقد بدت شقرة من شعر منسدل طويل على أكتافهن في مشهد هو إلى الخوف أقرب منه الى النزهة وقضاء الحاجات. يقول بائع الفاكهة عند الجسر : إنهن من بقايا مسيحيي البصرة فأتذكر المرأة اليهودية التي حدّثني عنها صديقي القاص قصي الخفاجي، والتي كانت تسكن وحيدة في شقة تطل على سوق المغايز، من جهة شارع الكويت. المرأة التي كانت آخر نساء الطائفة الموسوية، لا بل آخر من ظل بالبصرة من اليهود، والتي لم يعرف مصيرها حتى ساعة دخول القوات البريطانية المدينة في ربيع 2003 وخلو البيوت من ساكنيها.
لا أحد يتذكر اليوم عدد الأقوام الذين تناوبوا على الدخول والإقامة والخروج والهجرة من المدينة، لكن الذين تحدثوا عن تأريخها بعد غزو العرب المسلمين لها سنة 14 للهجرة يقولون بان البصرة كانت مسكونة بأكثر من سبعة أو ثمانية أقوام، وإن عمر بن الخطاب قال لعتبة بن غزوان حين أراد غزو بلاد فارس : سأسيرك إلى أرض الهند، وهو يقصد البصرة، فيما يشير الدكتور كمال احمد زكي في مؤلفه (العصور الأدبية في البصرة) إلى أن سكان المدينة الأصليين انهزموا او قتلوا او ذابوا في دين ونسيج المجتمع البدوي الجديد، القادم من الحجاز. اما من ظل منهم فقد تنازل بمرور الزمن عن قوميته ودينة وطائفته لصالح العرب المسلمين ،حكام المدينة الجدد، أصحاب الخيل والسيف. لا أعدد الذين هاجروا منذ الزمن ذاك فهم كثر، لكني تذكرت ذلك وأنا أبحث في السنين عن الفترة التي قضاها المسيحيون الأرمن في البصرة منذ دخولهم لها في 1916 ، فارّين من سفوح جبل أرارات ويرفان وغيومري وفانادزور وسواها من مدن أرمينية، بعد مذبحة الجيش العثماني لهم حتى بدا لي انهم الأقصر إقامة هنا من سواهم، هل خرجت المرأة وبنياتها متبضعات آخر حاجيات السفر؟
في ضاحية بريهة التي كانت مغلقة على سكانها المسيحيين قبل نحو من 40 عاماً ، وعلى الجادة العريضة حيث تمر المركبات نازلة بي إلى أبو الخصيب، وحتى يوم قريب أقرأ العبارة المكتوبة على بيت أحدهم ( البيت لا يباع ولا يؤجر، مطلوب لعشيرة .... دم دم دم ). ليس الخوف وحده من يسكن عيون النساء المسيحيات في مدينة لم تعد لهن، إنه الموت أيضاً.
في سرّها تحدّثُ المرأة بنياتها عن المحال التجارية التي كان يملكها المسيحيون في سوق الهنود، فتقول: سوق الحبال هذا الذي يقع خلف سوق المقام، هنالك هو سوق داود سلّومي، وهنا كانت صيدلية ددي ورحيم ممو ، وهذه عيادة الطبيب نجيب شماس، وفي المكان هذا حيث يجلس بائع الخضار والفاكهة هذا كانت عيادة طبيب العيون الأرمني شوارش ماردورسيان. اما سوق الذهب الطويل هذا لم يكن فيه بائع غير صابئي، كلهم من المندائيين ولما كان الوقت ضيقاً سكتتْ، فتذكرتُ السوق الكبير في البصرة القديمة الذي كان يأخذني اليه أبي وقد اختفت منه أسماء كبار التجار، بعد أن رحلت الأسر البصرية النجدية الأصيلة التي سكنت الزبير وأبي الخصيب والمشراق والسيمر والسيف والمناوي وها انا أقرأ تفرقهم في البلدان. هل تحدثت عن مقاتل الذين ظل منهم، يقول لفتة عبد الجبار وهو فنان وسينمائي من أبي الخصيب، حدثني طويلا عن أسفه لعدم اشتراكه في فيلم (البصرة ساعة 11) كنت التقيته البارحة عائدا من واشنطن، بأنه ظل خائفاً، جادّاً في الهجرة حتى بعد أن فقد بصره وانضمامه الى فصيل العميان. يقول أردت ان أضمن مستقبل أولادي.
مهاجرون في مدينة مهاجرة
[post-views]
نشر في: 31 مايو, 2014: 09:01 م