كثـُر الكلام حول ما جرى في مصر في الثلاثين من يونيو (حزيران) العام الفائت، حين هبّ الشعب المصري ليشكل بإرادته الحرة "طوفاناً" بشرياً تتردّد فوق موجاته، جملة خطيرة واحدة، تحمل معنىً واحداً، ظلت تتردد طوال اشهر "إرحل"، "يسقط حكم المرشد".. أكان الطوف
كثـُر الكلام حول ما جرى في مصر في الثلاثين من يونيو (حزيران) العام الفائت، حين هبّ الشعب المصري ليشكل بإرادته الحرة "طوفاناً" بشرياً تتردّد فوق موجاته، جملة خطيرة واحدة، تحمل معنىً واحداً، ظلت تتردد طوال اشهر "إرحل"، "يسقط حكم المرشد"..
أكان الطوفان ثورة شعبية قلما شهد التاريخ المعاصر مثيلاً لها، بزخمها، وعنفوانها، ونهوض جماهيرها، دون قيادة منظمة أو ارغام او قسرٍ وزجر، أم إيذاناً بانقلاب عسكري، مثلما رأى فيه البعض، وهم قلة كما يتضح من المشهد السياسي، وإن ترافق مع هذا الرأي إرهاب قاتل مدمرٌ كانت حوامله قوى الاخوان المسلمين وحواشيها من المنضوين في "تحالف الدفاع عن الشرعية"، اذ تواصل التعبير عن هذا التوجه الضال في الموقف المضاد للانتخابات والسعي لإفشالها بالمقاطعة أو بإضعاف الرئيس المنتخب، عبر تدني المقترعين لصالحه.
وقد واجه هذا النقاش باباً مسدوداً، ولو الى حين، بعد ان فشلت المقاطعة، ونال المشير السيسي أعلى نسبة من التصويت، منذ أول انتخابات واستفتاءٍ على الدستور، شهدتهما مصر بعد رحيل نظام محمد حسني مبارك.
في هذا الحد من التغيير، يمكن التوقف عند ظاهرة جديدة نوعية أخرى، تضاف إلى مأثرة 30 يونيو، وهي ظاهرة مركّبة، لم نشهد لها مثيلاً في تاريخ الثورات المعاصرة والتغيرات العاصفة منذ اوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وهي تتمثل في صعود "زعيم" من المجهول، وان كان قائداً عسكريا مسلكياً مرموقاً، الى مقدمة المشهد القيادي السياسي، وزيراً للدفاع، ثم " ليلتقط " بحسٍ غريبٍ لحظة تاريخية فارقة "فيقبض" عليها، بعزيمة مغامرة تُحسب له، ليتحول خلال ساعات الى "مُجَمّعٍ" لإرادة ملايين المصريين الذين وجدوا فيه، "مُخلِّصَهُم" من حكمٍ اراد اخراج مصر من التاريخ، وإعادتها الى تخوم العصور الظلامية، بهدم الدولة المصرية العميقة، واسدال الستار على اعرق حضارة إنسانية.
ولا تنتهي تجليات الظاهرة عند هذا الحد، مع ان فيها ما يكفي لتكون مأثرة بحد ذاتها، اذ فرضت ارادة شعبية تضافرت على مدى شهور، على الرجل الآتي من غياهب المؤسسة العسكرية، دون أن يلفت انتباهاً، قبل الثلاثين من يونيو، أن يترشح لرئاسة الجمهورية، ويتصدى لانجاز مهام مرحلة اعادة بناء الدولة المدنية، على قاعدة المواطنة، والحريات، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الانسان، دولة المؤسسات الدستورية الضامنة.
ولأول مرة ايضاً، يفوز المرشح الرئاسي، بنسبة فاقت التسعين بالمئة، ليصبح اول رئيسٍ في العالم الثالث، بلا تزوير فض، ولا قسرٍ أو تهديدٍ أو إغراء، سوى أمل "من الباطن" بقناعة وتطلعٍ للخلاص من مهالك الاستبداد والشمولية، وبذلك تكتمل الظاهرة، وتحدد لها موقعاً خارج السياقات التي عاشتها شعوبنا ولا تزال في ظل مهزلة ليّ الارادة وتسفيه تعبيراتها، واغتصاب مفرداتها الدالة على معاني الحقوق والحريات والنزاهة والشفافية وتداول السلطة.
(٢)
لكن ظاهرة السيسي، الزعيم الآتي من المجهول المفترض، تظل ناقصة اذا لم تكتمل بفصلٍ آخر، عميق الدلالة، عنوانه "القاضي الرئيس عدلي منصور". إذ شكل واجهة المرحلة الانتقالية، بانتقاله من كرسي رئيس المحكمة الدستورية الى كرسي الرئيس الانتقالي، ليقود البلاد وهي في حالة مخاضٍ وتداعياتٍ وفوضى، يعبث بها الإرهاب الإخواني، ويكاد يأتي على أطرافها، ويثير حولها ومستقبلها الشكوك والالتباسات، ويحيطها بالمخاطر من اكثر من صوب واتجاه دولي وإقليمي وعربي.
وهذه الانتقالة، أو قل التقليد، امر غريب عن الممارسات الحاكمة في عالمنا العربي المطعون بشرعية قادته. فليس مألوفاً أن يعهد الى قاضٍ لم يكن في واجهة الأحداث، أو فاعلاً فيها، أو محركاً لثورتي يناير ويونيو، بترؤس البلد وقيادتها وتمكينها من تجاوز مرحلة شديدة التعقيد والتداخل والتناقضات. والى ذلك، فقد اصبح وفقاً للتوصيف، جامعاً لموقعه كرئيس للمحكمة الدستورية العليا وبذات الصفة رئيساً للجمهورية.
وخلال رئاسته ظل في سلوكه وأدائه، حريصاً على سيمائه كقاضٍ يزن الأمور والمواقف والقرارات بميزان العدالة، ويحدد في كل خطوة تلك المسافة التي تفصل بين "عهدة القاضي" و"مسؤولية الرئيس"، متجنباً مطبات السياسة التي تغري بالانحياز والتماهي مع تموجات الكرسي الرجراج، واطماعٍ تدفع اليه، واوهامٍ من شأنها الايحاء بامكانية تكريس ما هو عليه، او ما يمكن ان يكون عليه، اذا ما أدار شؤون ما يحيط به، كما يفعل حكام الصدفة، فيفتح له باباً للمستقبل.
قال اصدقاء ممن تسنى لهم اللقاء به في اكثر من مناسبة سياسية، "انه تجاذب اطراف الحديث مع كل واحدٍ منا، وهو يلتقيه لاول مرة، كما لو انه على معرفة قديمة به، ينادي الواحد منا باسمه، ويتطرق لشأنٍ له علاقة بميدان نشاطه".
يقول صديق آخر، بما يعكس قيم واخلاقية ما ينبغي ان يكون عليه القاضي والقضاء "تهامس عدلي منصور مع اصحاب له حول حرج يشعر به، ويجعله في حالة من التردد في العودة الى مهامه في القضاء بعد انتهاء مسؤوليته كرئيس مؤقت"!
قال الرئيس عدلي لأصحابه "انه ربما قد ذهب بعيداً في ممارسة السياسة وهو في كرسي الرئيس، ويخشى ما يخشاه أن يؤثر ذلك على سويته في المستقبل كقاضٍ.."!
(٣)
كيف سيتصرف السيسي بعد ان يتسلم مهامه الرئاسية؟ أيكون رئيسا ديمقراطياً لمصر والمصريين، وأميناً على تعهده بوضع مصر على طريقٍ يتطلع كل مصري ان يسير عليه، تتحقق له العدالة الاجتماعية المغيّبة عن المجتمع منذ عقود وعقود، وتدور البلاد في مدارات التطور والتقدم الاجتماعي والسلم الأهلي؟
وهل سيتخلص القاضي عدلي منصور من تردده، وخشيته، فيعود الى مقام القضاء، ليعزز مكانة القضاء المصري ودوره في تأمين العدالة وضمان الاستقلالية التي حاول الاخوان تقويضها..؟
أيفعلان، كلٌ من موقعه ودوره، ما يجعل من الظاهرة التي شكلاها بسلوكهما وسويتهما وتوازنهما، "أمثولة" للاقتداء في عالمٍ عربي فاسدٍ جائرٍ متهاوٍ متصدع الأركان، لا هوية لأي ركن من اركان أنظمته الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية..!؟
(٤)
علينا أن لا نيأس من حالنا، ونتشكى من قصورنا في تقديم مثلٍ او تشكيل ظاهرة متفردة..
فلدينا كل مقومات ظاهرة فريدة:
فسادٌ للتصدير حسب الطلب..
وقضاء ينتظر الفرصة المواتية لينهض ويتعافى..
وما ننطيها..!