بعد أربعين عاماً من اعتلائه عرش إسبانيا، تنفيذاً للرغبة الوحيدة المحترمة للجنرال فرانكو، أعلن الملك خوان كارلوس التنازل عن العرش لابنه الأمير فيليبي، لينهي حياته السياسية التي ساهم خلالها بنقل بلاده إلى الديمقراطية ومصاف الدول المتقدمة، بخلقه مناخات للعيش المشترك والتوافق الوطني، ومن خلال العديد من الخطوات الشجاعة الواثقة، وبمساعدة من مواطنيه على اختلاف توجهاتهم، انتقل ببلاده من الحكم الدكتاتوري الذي خيم أثناء فترة حكم الجنرال فرانكو واستمر عدة عقود، تلت حرباً أهلية، وحوّل كل ذلك إلى خطوات اقتصادية تضمن التنمية والنهضة.
نعرف بالطبع أن ملك إسبانيا ليس كالملوك العرب، فهو يملك ولا يحكم، لكن خوان كارلوس تمكن من توفير أجواء إيجابية لحكوماته لكي تنجز مهامها وبرامجها، صحيح أن سنوات ملكه لم تكن كلها سمناً على عسل، خصوصاً في أواخرها حيث ارتفعت نسبة البطالة لتصل إلى حوالي 20 % في أوساط الشباب، لكن الاقتصاد القوي غطى ذلك، وتمكن من الاندماج بسرعة في اقتصادات السوق الأوروبية.
من يعرف مشاكل إسبانيا يدرك أن تبني الملك خوان كارلوس للنهج الديمقراطي، بعد عقود من دكتاتورية فرانكو التي خلفت مشاكل عميقة، ليس أقلها المطالب الانفصالية لبعض الأقاليم، أن يجمع حول الدولة كل مواطنيه من مختلف الأقاليم والإثنيات، وهو كان يقدم أمثولة في الحكم الرشيد، فالكل سواسية أمام القانون، لم يستغل سلطته الأدبية لحماية ابنته التي تورّط زوجها في قضية فساد، تركها معه بين يدي العدالة، ولم يتدخل لكبح الهجوم الإعلامي عليه شخصياً قبل عامين، بسبب قيامه برحلة صيد بينما البلاد تعاني أزمة اقتصادية حادة.
هل نطلب كثيراً من حكامنا إن قلنا بأن عليهم التعلم من تجربة إسبانيا، في الانتقال من الدكتاتورية إلى أجواء الديمقراطية الرحبة، وهل يمكن لشعوبنا النظر بإيجابية إلى تجربة الانتقال الديمقراطي التدريجي وليس الانقلابي حيث يبدأ الإصلاح من أعلى الهرم، وليس الوهم بأن صناديق الاقتراع وحدها كافية لتطبيقها، دون إيمان الناخبين والمترشحين بسيادتها، وإنما بخلق توافقات كبرى بين كافة التوجهات السياسية، صحيح أن عملية كهذه ليست سهلة، لكنها حال نجاحها ستكون نقلة نوعية في أي مجتمع تحدث فيه، وستكون قادرة على تجاوز كل التحديات والعقبات.
في عالمنا العربي وللأسف يبدو أن المطالبة الشعبية بالانتقال إلى الديمقراطية والحكم الرشيد، ستمر بفترة زمنية طويلة من التناحر، لن تفضي في نهاية المطاف لغير المزيد من الدكتاتورية، لأن الحكام الجدد الذين أفرزهم الربيع العربي، واظبوا على انتهاج أساليب من أطاحتهم الشعوب، فسجونهم تعج بمن يخالفهم الرأي، وأحزاب المعارضة في نظرهم مجرد بيادق تحركها قوى أجنبية، وقوى الأمن هي السيد المُطاع حتى وهي تعتمد المخبر السري، دون إمكانية التحقق من إخباريته، ولنا في عراق ما بعد صدام حسين خير مثال على الفشل في التخلص من حكم القائد الضرورة وعائلته وحزبه، والانتقال الى حكم المؤسسات، كما أن تجارب دول الربيع العربي ليست أفضل حالاً، بسبب قفز الإسلامويين إلى سدة السلطة، في انتهازية لعبت على وتر إيمان البسطاء، وأوصلت مجتمعاتها إلى حروب أهلية طاحنة كما يجري في ليبيا واليمن.
وبعد، هل كثير علينا لو تمنينا قائداً من طراز خوان كارلوس، يمتلك شجاعة أخلاقية تدفعه لمغادرة موقعه حين استكمال دوره، ليترك لجيل جديد وشاب مفعم بالطاقة والعزيمة موقع القيادة، ليواصل المضي قدما بالتغييرات التي يتطلبها الواقع المتجدد.
خوان كارلوس.. النموذج المطلوب
[post-views]
نشر في: 4 يونيو, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 1
ابو سجاد
مستحيل ان يتحقق ذلك في امة تحكمها العقلية القبليةوالتعصب الديني والطائفي والقومي