ربما يتبادر للذهن,ما هو الهدف من وراء التخطيط لإقامة الورش الفنية الجماعية. لكن بعيدا عن أهداف المؤسسة الداعمة و نواياها, ومنها الأهداف الإنتاجية (الإبداعية والتجريبية), فبالتأكيد ان معظم النتاج الفني هو بشكل من الإشكال عمل شخصي. وأقصد به الرسم بمختل
ربما يتبادر للذهن,ما هو الهدف من وراء التخطيط لإقامة الورش الفنية الجماعية. لكن بعيدا عن أهداف المؤسسة الداعمة و نواياها, ومنها الأهداف الإنتاجية (الإبداعية والتجريبية), فبالتأكيد ان معظم النتاج الفني هو بشكل من الإشكال عمل شخصي. وأقصد به الرسم بمختلف تقنياته, والنحت والفخار, وحتى الكثير من أعمال التصميم.
ونحن نعرف ان لكل فنان أسلوبا أدائيا يبذل جهده لاغتناء مساحته الأدائية والتعبيرية الخاصة. وإشراك الفنانين كمجموعة مختلفة, يعني بالتأكيد جمع أساليب خاصة ومختلفة. وحتى لو بذل كل منهم جهدا استثنائيا, فإني اشك بأنه سوف يتجاوز منطقة أدائه.
لذلك اعتقد بان هذه الورش محسومة ومحسوبة نتائجها. لكن كسلوكيات فردية ربما لا يخلو بعضها من استعراض مهارات, هي ليست بالضرورة مماثلة لحميمية السلوكيات التي تمنحها اشتغالات مرسمه أو فضائه الخاص. بالتأكيد ثمة أسباب, أو مصالح خاصة تصب في خدمة المؤسسة الحاضنة لهكذا فعاليات. منها أهداف سياحية. كما في أصيلة (المغرب), أو أهداف ثقافية بخلفية سياسية تعبوية. أو كنشاط ثقافي فني مصحوب بفعاليات فكرية نقدية. أو توظيف للأثر المنتج, كما في(سمبوزم ) النحت مثلا. أو لأهداف ثقافية ذات طابع خيري, كما فعاليات الهواة كبار السن, التي تخصص لها بعض المؤسسات الثقافية والفنية في أوروبا ميزانية خاصة, سواء كانت هذه المؤسسات تابعة للدولة أو أهلية . وبعضها من الجامعات المعروفة التي تتوفر لها الإمكانات المادية للقيام بهكذا فعاليات , وأحيانا ما تكون دولية. إضافة لهذه الفعاليات المشتركة الوقتية. تتبنى بعض الدول مشاريع قرى فنية, تستضيف فيها الفنانين بمنح أو بعقود لمدد زمنية محدودة, أحيانا ما تتجاوز العام الواحد. مشروع القرية الفني لم يكن غائبا عن البلدان العربية. وكانت مصر رائدة في مشروع قرية الفنانين في مدينة أسوان المصرية. التي يمنح فيها(التفرغ) لإقامة وعمل الفنانين دوريا لعامين. وإن بقي هذا المشروع أو انتهى العمل به لظروف معينة. فبالتأكيد انه خلف أثرا إيجابيا على الحركة التشكيلية المصرية.
الاشتغالات النحتية, غالبا ما يخصص لها أمكنة مكشوفة توفر المجال لعمل النحاتين ولاحتواء المنحوتات المنجزة. أحيانا ما يتم الاتفاق مابين الطرفين(المؤسسة صاحبة المشروع والفنانين المساهمين) على المساهمة بالتبرع ببعض النتاج لدعم المشروع, كما تساهم صعوبة نقل المنحوتات, ومعظمها حجرية, في تخلي الفنان النحات عن أخذها. لكن غالبا ما يكون النحات على دراية بهذا الأمر. لذلك تعتبر مساهماتهم في هكذا أنشطة كهبات في رفد المكان بنتاجهم النصبي. إن استفاد النحات من الخامة المتوفرة, وحصل على مساحة عرض لمنحوتاته. فبالتأكيد هذا ما يبحث عنه الكثير من النحاتين. لكن هل تبقى هذه الأعمال النحتية أو الرسوم والنتاجات الأخرى مجرد تذكارات. ربما سوف يزال بعضها, أو كلها في يوم من الأيام. ما دامت اشتغالات شخصية لا تتقيد بفكرة العمل ومناسبته وحتى فضائه الخاص المتفق عليه مسبقا. التي غالبا ما يتم التخطيط لها من قبل كومونات المدن وسلطتها الثقافية الحاضنة لهكذا فعاليات. ربما سوف تتوزع هذه المنحوتات والرسوم أو بعضها في فضاءات معينة تناسبها. ويتحقق لهذه الفعالية احد شروطها المهنية الفنية. رغم أن بعض الورش تهدف إلى تعريف الجمهور, عبر نموذج الفنان المعروض, لسيرته الفنية وما حقق من أعمال معروضة في أماكن متعددة سواء في متاحف أو قاعات عرض أو في فضاءات المدن, وتحقق له عنصر التواصل الذي يهدف إليه. لكن هل يسعى الفنان المساهم في هذه اللقاءات فعلا لتبادل الخبرات الفنية والثقافية وتطوير مهاراته. ربما نعم, وربما لا. لكن يبقى المهم هو التعرف على الآخر, وربما المختلف. وهذا هو المهم كما أعتقد.
ليس من اليسير إحصاء عدد الفنانين في العالم. والتنبؤ بمن يرغب منهم في المساهمة في هذه المستعمرات الفنية أو الورش الموقتة. في الوقت الذي تحول فيه الفضاء الفني إلى فضاء افتراضي عام يلتقي فيه أعداد لا تحصى من المبدعين. لكن للفضاء الافتراضي حدوده الوهمية التي من الممكن أن تكسرها لقاءاتهم المباشرة. هذا ما تسعى إليه العديد من مشاريع الورش وفضاءات العمل الاستيطانية المحددة بزمن معين. والتي من الممكن أيضا استغلال هذه الأنشطة الفنية ضمن برمجة الأهداف الاستثمارية. فبلد أوروبي يحاول تحديث منظومته السياسية والثقافية مثل(لتوانيا) ليس غريبا أن يتبنى مسؤولو الثقافة فيه برامج إقامة ورش ومستعمرات فنية منتظمة لفنانين من بلدان أوروبية مجاورة, كالسويد مثلا. وكاستثمار اقتصادي مناسب. تجربة كهذه بالتأكيد ستنمي تبادل الخبرات الفنية للفنانين المشاركين, إضافة إلى بناء علاقات مهنية متبادلة تكسر عزلة هذا البلد السابقة, وتحقق مردودا ماليا أيضا.
تجربة شخصية:
قرية(سيكري 1) التي تقع في وسط فرنسا, اشتهرت بديرها الأثري (آبي دي لا بره 2). ومشروع مستعمرته الفنية التي تبنته مؤسسة(بو كولست فيف 3) منذ عدة سنوات, التي تهيئ للفنانين الذين يرغبون التفرغ بعيدا عن ضوضاء المدن. مشروع سكن الغابة هذا كان في البدء مخصصا للموسيقيين الكلاسيكيين, ثم أضاف لاحقا فنانين من دول مختلفة للتفرغ لمدة عامين في اختصاصات متعددة منها: الرسم والنحت والنقش والعمارة والتصوير الفوتوغرافي والعمارة والتأليف الموسيقي والسينما ووسائل الإعلام السمعية والبصرية. مع بعض الاستثناء في تمديد فترة الإقامة مراعاة لظروف الفنان الخاصة. في عام(2005) استطاع النحات العراقي الشاب(أحمد الصافي) القدوم من العراق للإقامة في هذه السكن الفني. ساعدته الصدفة والموهبة الفنية وما أنجزه من أعمال نحتية متميزة في وسط الفنانين العراقيين الشباب, من الحصول على توصية للقبول في هذا المشروع, والالتزام بشروط المشروع التي من ضمنها تقديم بحث أو معرض سنوي. استطاع احمد أن يقدم بدل المعرض الواحد معرضين في كل عام, بعد عامين عرضت أعماله في قاعة عرض فني في باريس تابعة أو متعاونة مع(المؤسسة). استقطب عرضه هذا جمهورا لا بأس به. كما استطاع من خلال مكوثه في هذا السكن من إقامة أكثر من علاقة وفنانين آخرين, منهم سينمائيون, ورسام أرمني توفي العام الماضي.
عن تجربته يقول أحمد:
في البدء حصلت على سكن في شقة و مشغل. ثم بعد ذلك استضافوا الكتاب والسينمائيين. كان المفروض أن أسكن عامين, لكن لظروفي الصعبة مددوها لثلاثة أعوام, وكنت استثناء , مثل بعض الحالات, ثم ألغوا الاستثناءات لاحقا.. أقمت معرضين كل عام في نفس البناية أو في مكان آخر. بعد انتهاء إقامتي حصلت على معرض في قاعة الباريسية (مغلقة الآن) يتعاملون معها. كان المعرض ناجحا بالنسبة لي, رغم كون القاعة غير معروفة بشكل كبير. لكن عرضي استقطب و أثار اهتمام الكثير من المشاهدين.
عن سكن إقامته الفنية يقول:
المكان جميل وهادئ. كانت الصعوبة التي أواجهها هي في عدم امتلاك وسيلة النقل الخاصة بي وأنا معزول وسط الغابة. لكن هذا هو ما يهدف إليه هذا المشروع من اجل التفرغ للاشتغال وسط هذه الخلوة الطبيعية. لذلك هو مكان مثالي لمؤلفي الكتب والموسيقيين. أكثر من الفنانين النحاتين والرسامين. وكانت الصعوبة الأخرى حينما فقدت مرسمي, لذلك اضطررت إلى مواصلة اشتغالاتي النحتية في الإسطبل الذي كان بدون تدفئة شتاءً. ولم يكن لي غير غرفة خارج السكن باردة جدا للرسم, بسبب من تخفيض مستوى الدعم المالي. لذلك قررت إنهاء إقامتي في مشروع الإقامة الفنية لهذا الدير.
أحمد الآن نحات معروف في الوسط الفني وله تقييم متقدم بالنسبة للإحصاءات الفنية العالمية(موسوعة ستيف فراثنغ لأفضل (501) فنان عالمي, الصادرة عن دار بارون (2008). مما يدل على استفادته في تطوير مستوى أدائه الفني سواء في مجال النحت أو الرسم. وسبق لي ان أشدت بتجربته المتفردة في مقال سابق. ومع كل اعتراضاته أو مآخذه على خدمات هذا المشروع. إلا أنه بالتأكيد حقق تقدما واختراقا في المجال الفني من خلال حصوله على هذه الفرصة لتقديم شخصه ونتاجه. على العكس من الكثير من النحاتين العراقيين الذين بقيت نتاجاتهم الفنية المتقدمة تفتقر إلى فضاء أوسع يتعدى حدود وطنهم أو بعض الدول العربية. أن تشتغل فنا فهذا جيد. لكن أن تتواصل بفنك والعالم الغربي والعالمي الأوسع فهذا أفضل, لتبادل الخبرة المهنية والثقافية, وللتسويق أيضا. لقد حققت هذه المؤسسة التي هي بالأساس ترعى كبار السن لأحمد فرصة تفرغه الفني وتطوير أدواته التعبيرية. إضافة إلى تعريفه أو تقديمه للوسط الفني ولو بحدود معينة. في زيارتي الأخيرة لمتحف الفنون الحديثة في عاصمة الأردن(عمان) لفت نظري عدد كبير من المنحوتات الصخرية. الموزعة على مساحة الحديقة التي تفصل بنايتي المتحف المتقابلتين. ولمعرفتي السابقة بقلة المشتغلين في مجال فن النحت من الفنانين الأردنيين. بعد استفساري من مدير المتحف(الدكتور خالد خريس). اكتشفت بان هذه المنحوتات هي من نتائج(سمبوزيوم) سابق للنحت. الذي اشترك فيه عدد من النحاتين العرب والأوروبيين. وكان واحدا من هذا المنحوتات يشير إلى طابع النحت الإسكندنافي الشمالي. وفعلا كان لنحات نرويجي. لقد أغنى هذا المشروع المشترك(السمبوزيوم) فضاءات بعض أمكنة مدينة عمان وكسر رتابة بيئة المدينة الجبلية المتقشفة. وفي نفس الوقت تم التواصل فنيا وقاطني المدينة وزوارها. مثلما كان لمهرجان مدينة جرش الأثرية لنحت المواد المختلفة من حجر, رخام, خشب, حديد, طين, وسيراميك. من أثر في تنشيط الحركة الفنية في مجال النحت والثقافة الفنية, خاصة بمصاحبة الندوة الفكرية الفنية التي تناولت المواضيع الآتية:
النحت والتكنولوجيا.. النحت والعمارة العربية.. النحت والمدينة.. النحت والبيئة.. المفاهيم المعاصرة في الفن المعاصر. ليست السلطة الثقافية في الأردن وحدها من يتبنى هكذا مشاريع فنية جماعية. بل هو تقليد عالمي. والعديد من متنزهات أو فضاءات مدن أوروبية وآسيوية تحتوي الكثير من أعمال النحت التي خلفتها فعاليات مشتركة كهذه. لكن للتجربة اللتوانية طابعها الخاص. فمشاريع المستعمرات والورش الفنية المتعددة بمختلف التقنيات والنقاشات الدورية لتطوير الإمكانات الفكرية والأدائية في هذا البلد الأوروبي, يخطط لها ضمن برامج تجمع ما بين الخدمات السياحية والفنية في آن معا. يساعد على ذلك توفر الأماكن الطبيعية والساحلية الجذابة والقرى الفنية بمؤسساتها وبرامجها المتعددة. ولتعزز هذه الأشظة الفنية حاجة البلد للانفتاح على أوروبا الغربية وسوقها المشترك.
1- Ségry. 2- Abbaye de La Prée. 3- Pour Que l’Esprit Vive.