أشرت في مقالتي الاولى من ( بزوغ الصوت الانثوي) الى ذكورية الفلسفة الاغريقية في اوج ازدهارها إذ هيمنت طوال العصور على الفكرالغربي والعلوم الطبيعية ،بخاصة افكار أرسطو عن العلم ، وعبر الفي عام من الانسحار بالنص الارسطي والوليمة الذكورية للحياة الغربية والشرقية على حد سواء أقصيت النساء وحظر عليهن العمل العلمي والفكري بل وجرت السخرية من جهدهن العلمي، فمنذ بدء الحضارة الانسانية لم تتوقف محاولات المرأة للتعبير عن مواهبها الفكرية وامتيازها العلمي بالرغم من القمع والاقصاء ، و تتاح أحيانا فرص نادرة لنساء عبقريات في فترات زمنية تعد امتدادا للعصر الكلاسيكي القديم في اثينا الاغريقية ومن بين هؤلاء النساء المفكرات سطعت خلال القرن الرابع الميلادي في مدينة الاسكندرية شخصية امرأة فريدة عدت اول فيلسوفة و فلكية وعالمة رياضيات هي هيباتيا ابنة الفيلسوف ثيون ، وكانت الاسكندرية حينها تعيش عصرها الذهبي في احتضانها للعلم والمعرفة و تضم في مكتبتها العظيمة اكاديمية للعلوم والفلسفة.
ولدت هيباتيا سنة 355م وكانت الاسكندرية تحت الحكم الروماني ونشأت بين المخطوطات والحوارات والاجواء الفلسفية، وكانت تواقة للمعرفة وطرح الاسئلة في وسط يجتمع فيه الوثنيون الرومان واليهود والمسيحيون الذين أتاحت لهم السلطة الرومانية أخيرا ممارسة عقيدتهم وطقوسهم ، كانت هيباتيا تراقب الكون والاجرام السماوية وتتساءل عن طبيعة الكون والوجود ولما لم تشفِ شغفها الاجابات الجاهزة عن الكون سافرت للدراسة في روما واثينا وتأثرت بفلسفة افلاطون وارسطو ثم عادت الى الاسكندرية لتقوم بتدريس الرياضيات والفلك والفلسفة ، وكانت بارعة في طرح تساؤلاتها ومعارضتها للإيمان المجرد ، وانضم الى صفوفها عدد كبير من التلاميذ المسيحيين والاجانب القادمين من جهات العالم ،وأثارت هيباتيا أسئلة عميقة ومتشابكة ومحيرة ايقظت عقول الكثيرين من مريديها وبفضل توجهاتها العقلانية ونشاطها في الفكر والعلم غدت بمنأى عن فكرة الدين أو االزواج ، كانت ترى أن البشر أخوة، وكان العلم عقيدتها الكبرى وعندما طلب منها احد الكهنة ان تعتنق الدين الجديد قالت له بجرأة نادرة ( إن إيمانك يمنعك من طرح الأسئلة اما انا فعملي يتطلب مني طرح الاسئلة ).
تفوقت هيباتيا على مجايليها من فلاسفة مدينتها ،وفي هذه الفترة ظهرت جماعات دينية متشددة ترفض النقاش الفلسفي ونظريات هيباتيا حول الشمس التي اعتبرتها مركز الكون وعن فكرتها حول كروية الارض واشتد غضب الكهنة الذين اعتبروها مروجة للعلوم الشيطانية فالكنيسة تقول بان الارض مسطحة وهي مركز العالم واعتبروا هيباتيا مصدر خطر على الدين الجديد واتباعه، رغم ان هيباتيا شغلت تلاميذها بالقضايا العلمية واقتصرت دروسها على الفلسفة وعلم الفلك والرياضيات ولم تزجهم في الجدل الديني ،وتفجرت الصراعات عندما اشتد عود الدين الجديد وشرعت فرق المتشددين تحطم تماثيل الالهة الرومانية وامتد عنفها الى مكتبة الاسكندرية واكاديمية العلوم فقامت بتدمير المكتبة ومخطوطاتها وقتل بعض التلاميذ ووقف الاسقف يخطب في الناس متهما هيباتيا بالزندقة والعمل ضد الدين بتدريسها للعلوم الشيطانية و أن عليها كإمرأة ان تلزم البيت فقد خلقت المرأة لتخدم الرجل حسب وفي هجومه العلني العنيف أباح دمها للقتلة فهاجت العامة وفرق المتشددين وامسكوا بها وجردوها من ثيابها ثم مزقوا جسدها اشلاء و أحرقوا اعضاءها في جهات المدينة ، أعدمت هيباتيا لأنها تجرأت وطرحت الاسئلة المحرمة في زمن تشدد ديني يعادي العقل والعلم والفلسفة ولأنها امرأة لها كشوفاتها الفلكية ، فانتهى بمقتلها العصر الكلاسيكي للفلسفة.
يتبع
إعدام الفيلسوفة هيباتيا: التشدد يقتل المعرفة ..القسم الخامس من "بزوغ الصوت الانثوي"
[post-views]
نشر في: 7 يونيو, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...