آلاف من النايات التي تئن بحناجر مذبوحةٍفي زقاق مقطوع لسانه وليس سوى الظلام قلت لناجح ونحن نحث الخطى لنرى ما تبقى من المدينةوهي تفلت من القبضة الحديدية بضلوع منخورةونهر ذبيح وأسد مخصي يكشف لأول مرة عن عورتهوسماء محروثة تنز دماً وتراباًوالعتاكة يسرقون
آلاف من النايات التي تئن بحناجر مذبوحةٍ
في زقاق مقطوع لسانه
وليس سوى الظلام
قلت لناجح ونحن نحث الخطى لنرى ما تبقى من المدينة
وهي تفلت من القبضة الحديدية بضلوع منخورة
ونهر ذبيح وأسد مخصي يكشف لأول مرة عن عورته
وسماء محروثة تنز دماً وتراباً
والعتاكة يسرقون
لا بل يعرّقون لحم الوطن عن عظامه
ما الذي نفعله الآن؟
فقال: قل سلاماً للبلبل
الذي ينقر فوهة البندقية على غفلة
من القناص المتنكب قريباً من عشه
ليسكر منها
ويغرد للأغصان التي تخاف أن تبتسم عن ثمارها
وللقلب الصخر الذي لا يلين
وللمحبة وهي تطلق حمائمها بيضاء من غير سوء
وللمعاق الذي يمسك الوطن بأسنانه
ومازالت يداه في الأمن الحرام
وأطرافه الاصطناعية بانتظار من يصادق على صحة عوقه
فقلت أيا ناجح
ما هذا (الخبال) الذي لم اسمع به من قبل
وصرخت : أبانا الذي في المسدسات
الرصاص يجري الى العراق
والعراق ليس بملآن
والكل مقتول وقبض الريح
وتخاصمنا طويلاً
ونحن الذي لا نعرف حدوداً لجنوننا
ونعرف ان المدن تموت من غير عشاقها
فتعاهدنا على البقاء في الحلة قريباً من ناسها الطيبين
ونهرها وجسرها القديم نرمم ما تبقى من أضلاعه
فالعابرون على قدم وساق
هما عينان يا ناجح
عينٌ تبكي لك
وعين تبكي عليك
فأيّ عين سأزجر
وفي شفتيّ ناي يطيل الأسى في هديل الحمام
يا سلام
ففي خافقيك تئن المنافي
فيهدر بالحب نهر الكلام
( فالة الوكت زرّفه لكلبي
وآنه بعمه وماشوف دربي)
*
بين ان تنوح على قبر منفرد
وان تنوح على مقبرة جماعية
آلاف من النايات التي تئن بحناجر مذبوحة مشكّلةً
غيماً من الآخ أسود يصدح في السما
ويمطر بالصكعات التي يتفطر منها اليافوخ رعباً
فأبناؤنا ينسلون صرراً من أسنان الشفلات
وما من مجيب
فكيف الخلاص يا ناجحُ؟
الخلاص في المعرفة والجنون
والخلاص أيضاً في أن تحمل الماء براحتيك
الى الأشجار المصرة على الغناء بثمار يانعة
وبآلاف العصافير المشرئبة من رؤوسنا
فتلك هي أحلامنا التي احترقنا من أجل أن نسمع جرسها
وسنحترق لاحقاً
فلا خلاص إلا بالمعرفة وجحيمها الذي لا يبقي ولا يذر
*
للحلة أرحامٌ مائيةٌ أنجبتنا واحداً فواحداً
لكنها التمّت في رحم مائيٍ
مكثفةً ظلام العالم السفلي بآلهته وشياطينه ومدنه المدمرة
لتحتضن ناجح وينام قرير العين في رحمها المتلاطم
وأنّى له ذلك فهذا النهر الدفاق المنبجس من الينابيع كلها
موشوماً بكُفَّة موسى معاكساً متمرداً
ولد من موجة كانت تمشط جدائلها قريباً من عنانة
فانحنت باسقة اسمها (أنانا) لترضعه حليب جمارها وعذابها
فصار هذا البياض الذي ترونه
ولا راحة للبياض ابداً..
*
أتذْكر يوم الحجيج الى أور؟
كان قلبك يرتل بآيات لم اسمع أحلى من جرسها
وجبينك يتفصد فرحاً
وأنت تصعد الزقورة عالياً باتجاه السماء وتقول
(من لا يرى السماء من أعلى الزقورة ليسمع همس الشمس مبللاً قمرها ونجومها لم يعرف العالم السفلي)
وتسأل: كيف تنام السماء والعراق بحر لا ينضب من الشهداء
كان الغروب صافياً وكنا نرى الشمس
تمسح بيديها الناعستين أرواح الشهداء المتفحمة
أكنت تعني بأن العالم السفلي سماء مقلوبة
ينوح تحت جحيمها الآلهة والملائكة والعراقيون
لكل بلاد معلم ورموز
ورمزك لالاتٌ تنوح وكوزُ
ورمزك أن تبقى غريباً مشرداً
وتحتك من خير العراق كنوزُ
*
أكنت تميز أنين ديموزي من بحةٍ في صوت سعدي الحلي
وتسأل عن مدلولة وما تبقى من عمرك
كنت تهبط برفق وأنا أرتجف خوفاً
ورصاص الميليشيات يلعلع فوقنا
ولأنني أحسست لحظتها بأنك لن تخرج من هذا الجب المليء بالصدمات مطلقاً
كنت تسأل والأجوبة تأتيك من حفر لا قرار لها
والجنون يمسك قدميك متوسلاً
أكان يعلم مثلي بأنك لاتخرج من هذا الذي جئنا إليه بمحض ارادتنا
وكيف أعود الى الحلة ولا ناجح فيها
وانتظرتك طويلاً
ورأيتك في هوةٍ بعيدةٍ خيطاً من الموت يهبط حتى اختفيت
فبكيت كثيراً
ورأيت السماء تبرق وأنت تهبط خيطاً أبيضاً
وغنينا: ( حاير ممتحن شرتكب يا راي
فكري كله يمك
وأمي تكلي عيفهه مسودنه هاي
كون بكلبي اضمك
لعيونك أروحن فدوه يهواي
وأمي فدوه لأمك
تمشطك تعتني بشعرك تداريك
روحي معلكه بيك )
وأعجب من كتفيك التي حملت جبال الهم
والرعب بقلب راسخ عتيد
وهي تهتز ملامسة الكاع من أغنية لزهور حسين
(هذا الخبل كاتلني يعمه)
*
أتذْكر يوم قلتُ لشان طالب اللاهوت الامريكي
الذي رافقنا في الحجيج الى أور:
لماذا تضع أعقاب سجائرك في جيب بدلتك العسكرية؟
فأجابني يا موفق أنا أقف الآن في أقدس مكان في الأرض
حيث نوّر الحرف الأول ( وتريدني أشمر بيه كطوف)
فقلت له: ( أيا منتوف)
لقد أخجلتني جداً
وضحكنا كثيراً..
*
من لم يعرف ناجح المعموري لم يعرف معنى المثابرة مطلقاً
فهو البكّاء على الدقيقة التي تفلت من يديه دون ان يتزود بالمعرفة منها
ويكون احياناً مقفلاً أو خارج التغطية لأن كتاباً جديداً وصله أو طالب علم كلفه
فهو الذي لا يرد طلباً يتعلق بالمعرفة وهذه ميزة اختص بها لوحده..
*
بعد أن أدلينا بأمواتنا في صناديق الاقتراع
لا أدري كيف وصلنا الى بورسيبا
هاربين من الحاضر ومفخخاته وساسته
واعني حقول الألغام التي استولت على الكراسي كلها
(دخيلك يا بورسيبا)
لم يلتفت إليّ
كان ينحني بأدب جم يقبّل يد التراب اصبعاً فإصبعاً
ويقيم صلاة الغائب مع رقيم أكل الدهر بعض حروفه
وما أصعب غياب الحرف
فهو الذي أوقعنا في طوفان الخرافة دون سابق إنذار
ولا سفينة ولا نوح ولا جبل سنرسو عليه
فمن يلوي عنق الطوفان غيرك يا ناجح
وأنت تشمّر عن عصاك التي لم نرها من قبل
وتحدو بنا باحثين عن عشبة الخلود للعراق
الذي لا نريده أن يموت ولن يموت
فقد تركنا حليب فتوتنا في راحتيه
وقلوبنا في صدره ...