2-2
الحروب عموماً هي أحداث إعلامية، لأن عدد الذين يعيشون معمعتها يظلون أقلية. البقية الكبيرة ترى الحرب في التلفزيون وحسب. أما في الأزمان الماضية، فكانيُسمع عنها من قصص المحاربين الذين عادوا من الجبهة، ووقفوا في الساحة الرئيسية للقرية يتحدثون عن الوحشية هناك. "كما لو كان الأمر في فيلم"، جملة نسمعها كثيراً أمام الكاميرات بعد المعركة. ومن أجل شرح الدراما الداخلية التي تحتوي عليها هذه القصص، قدم الباحث ماكس ساودنيرس من لندن، شرحاً شيقاً في مساهمته عن "الصدمة في القصص البيوغرافية"، والذي قال فيه: "الشاهد لا يستطيع أن يصف الموت، فقط يستطيع أن يصف ظروف الموت، أو ربما الكلمات الأخيرة التي قالها رفيقه الذي يحتضر"؛ القصة هي ما يؤسس معنى الموت وهي تساعدنا بتكوين صورة قريبة بمواجهة ما هو غير قابل للوصف: الخلاصة بالنسبة له "الموت يصنع من القصة صورة".
أيضاً قصص شهود العيان يجب أن تُقرأ مثل خيال روائي. "صحيح أنها تملك شرعية أخلاقية لأنها تأتي من مكان الموقعة ذاته"، كما تؤكد استريد أيرل في محاضرة عن "شهود عيان الحرب في ثقافات الإعلام"، "لكن حتى الجندي ذاته في معمعة الحرب لا يستطيع أن يحرر نفسه من التأثير الإعلامي الذي خزنه في وطنه الأصلي"، أو ما يُمكن أن يُطلق عليهالذكريات "الجمعية". ليس من المبالغة القول، أن الإدراكالحقيقي للحرب، يتشكل مسبقاً عن طريق تلك الذكريات الجمعية، "بنفس قوة الذكريات المتأخرةالمغيرة للحدث".
لا تفهم أيرل الذكريات "الجمعية" بكونها واقعة ثابتة، غير متغيرة، "تؤخذ من حاسوب ثابت يُرسل إلى الفعاليات المرتبطة به"، إنما تشكل ببعدها الميتافيزيقي "صورة متغيرة دائماً عن طريق نفسها". تشكيل الذاكرة، وما بعد الذاكرة، "يخضع لعمليات تواصل إعلامية متغيرة الشكل، تختلط مع تصور عام عن الحرب". دلائل هذا التأثير التي تملكه صور الإعلام على الجنود، تجده الباحثة أيرل في طرائف الحرب وفي تأثير الأفلام، كما حدث مثلاً عند إجتياح البحرية الأميركية عام 1983 لجزيرة غرينادا، حيث صاحبت هجوم الطائرات موسيقى فاغنير، تقليداً لما حدث في فيلم فرانسوا كابولا المشهور: "القيامة الآن".
أما في ما يتعلق بالحرب الحالية أو بالحرب على الإرهاب، فحسب الدراسة التي قدمها أستاذ الأدب من جامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأميركية، كريس راينز شيكوما،ليس هناك حتى الآن صورة موحدة لما يدور هناك. صحيح أن الحرب اليوم مع "فوكس نيوز"، و"الأمبيديد جورناليزم"، حولت الحرب التقليدية إلى حرب الصور، إلا أن الصور التي تبعثها هذه المصادر مختلفة. أما المواضيع المكتوبة عن الحرب فتأخذ على عاتقها حسب المتخصص الأميركي ذاته ، مهمة تنظيم الفوضى. ويعني هذا التنظيم "رغبة عاطفية، استراتيجية سياسية وضرورة للتذكر". تماثيل الجنود، ووضع الأكاليل في أوروبا ما تزال تحتفي بتقديس ثقافة "الشهيد" وتعامل الحرب كما هو الأمر قبل 80 عاماً.وهذا ما يثبتأن للحرب دائماً مغزى معيناً، له علاقة بحاجات العصر الذي تحدث فيه الحرب. فالمستقبليون الإيطاليون الذين إلتفوا حول فيليبو مارينيتي مثلاً، تغزلوا في بيانهم المشهور بجمالية الحرب، لأنها "توحد نيران الأسلحة مع طلقات المدافع، العطور مع روائح التفسخ في سمفونية واحدة". المتخصصة الإيطالية فيتا فوتوناتي تقول إن هذه النظرة ما تزال حاضرة عند البعض، تثير دهشة شعرية عندهم، وكأن الحرب "تعني حركة وإبداع"، وذلك ما نجده متجسداً في "تلصص وسائل الإعلام"، التي إحتفت عن طريق النقل الحي ليلاً بتوجيه عدساتها إلى بغداد عام 2003 لتصور "الصدمة والإختراع"، و"عظمة" قصف الجيش الأميركي والإنفجارات!