TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > مبنى "الموانئ" بالبصرة: العمارة.. والمدينة

مبنى "الموانئ" بالبصرة: العمارة.. والمدينة

نشر في: 13 يونيو, 2014: 09:01 م

* الى: خليل العلي- صديقي، ووريث سلالة معمارييي البصرة لم تكن البصرة مدينة عادية، لم يكن تاريخ البصرة عادياً، لم يكن اسم البصرة اسماً عادياً. ولهذا فان عمارة البصرة، لم تكن هي الأخرى، عمارة ..عادية. ففي تلك المدينة/ الميناء، (التى منحت اسمها الى اسم

* الى: خليل العلي- صديقي، ووريث سلالة معمارييي البصرة

لم تكن البصرة مدينة عادية، لم يكن تاريخ البصرة عادياً، لم يكن اسم البصرة اسماً عادياً. ولهذا فان عمارة البصرة، لم تكن هي الأخرى، عمارة ..عادية. ففي تلك المدينة/ الميناء، (التى منحت اسمها الى اسم خليج، يبعد عنها بحوالي 55 كم، ودعي، منذ ذاك، باسم "خليج البصرة")، في تلك المدينة "ظهر" في مشهدها المعماري، لاول مرة، على سبيل المثال لا الحصر، مبنى "مسجد" إسلامي ، كمنشأ مخصص بقرار مسبق للصلاة. خططه، كما تقول الرواة "محجن بن الأدرع" احد الصحابة، الذين كانوا برفقة "عتبة بن غزوان مؤسس المدينة وصاحب قرار بناء مسجدها الأول في سنة 14 هجرية، الموافق لعام 636 ميلادية. صحيح، ان "المسجد" جاء بصيغة بدائية، وبمواد هشة اغلبها جذوع وسعف النخيل، لكنه ظل يحتفظ بريادة وأولوية تكوينه المبتكر. ومنه، من البصرة، عرف العالم نوعاً "تابولوجيا" جديدا في النشاط التصميمي. (ذلك لان ما تم سابقاً، في مكة والمدينة من نشاط في هذا الاتجاه، غلب عليه اما غياب الفكرة المسبقة، اوالتواضع في المقياس). وظلت الممارسة المهنية المعمارية، تسترجع على امتداد قرون، ذلك الحدث "البصراوي" التصميمي الرائد، جاعلة منه "مرجعاً" لتنويعات "ثيميويه" مدهشة، مضيفة بنماذجها المعبرة الشيء الكثير الى ذخيرة العمارة العالمية، مغنية بذلك مجال تنويعاتها. وهل يمكن نسيان اسم البصرة ومكانها، و"مكانتها" الأسطورية في المخيلة الانسانية، التى خلدتها قصص "السندباد البحري"؟ وعنها: عن "بصرياثا"، المدينة التى ستجترح اسلوب عمرانها الحضري الخاص، وستشكل أنواع عماراتها المثيرة، كتب محمد خضير، يوما ما، مايلي"..قبل البصرة كانت بصرياثا. لولا النخلة ما وجدت المخاريف، ولولا المخاريف ما وُجد اللاقطون. ولولا اللاقطون ماوجُدت السفن، ولولا السفن ماوُجد الميناء، ولولا الميناء ما كانت لتقوم مدينة. تجول الجاحظ في أسواق المدينة القديمة ووقف أمام دكةٍ في جامع فسمع لغط الزنج والزط والعوام، ففرزنه عن كلام العرب. لولا العوام ماوُجدت الموانئ، ولولا لحون الخلطاء ما وجد لسان عربي. ولولا ذلك اللسان ما وُجد (العين) وصاحبه. ولولا (البخلاء) ماوُجد الجاحظ. ولولا المكّدون ماوُجد قصاصون. ولولاهم ما وُجدنا. من دوننا جميعاً ما وُجدت المدن.." (محمد خضير" بصرياثا، منشورات المدى، دمشق، 1996، ص. 11-12).
لكن مع كل الظروف القاسية التى مرّت بها البصرة، ومحاولات التهميش التى تعرضت لها، بل وما جابهته من مسعى كثر لالغاء دورها الحضاري والثقافي، فقد كانت البصرة دوماً، تبهر محيطها العمراني، بنماذج تصميمية رائعة، اعتبرت في كثير من الاحيان، مادة للاقتداء والاحتذاء والتباهي. بيد أن دورها في تكريس عمارة الحداثة في بلدنا، كان مميزاً ومهماً في آن. ففي البصرة، تحديداً، تم ارساء "اللبنة" الاولى في صرح عمارة الحداثة العراقية، حتى قبل تشكيل الدولة ذاتها في آب 1921، عندما تم بدء تشييد مبنى "مستشفى مود التذكاري" (1920-1922)، اول منشأ معماري حداثي في البلد الذي سيظهر لاحقاً، على الخارطة الجغرافية الاقليمية باسم "العراق"! ورغم غنى المشهد المعماري "البصراوي"، بامثلة عديدة من المباني المميزة، فثمة مبنى مهم فيها، قُدرّ لعمارته أن تكون احد اجمل مباني العراق الحديث في العشرينات، ومن اكثرها حذاقة وبراعة في التنفيذ. نحن نتحدث، بالطبع، عن مبنى "مديرية الموانئ العامة" بالبصرة (1925-1927)، المعمار: جميس موليسون ويلسون (1887-1965) J. M. Wilson.
يتعين التذكير بان دائرة الموانئ كانت، وقتذاك، من "أغنى" دوائر الدولة العراقية من ناحية الايرادات. ولهذا فان عمارة المبنى المستقبلي الخاص بهذه الدائرة، ارتؤي ان يكون ملائما ومكافئا لمنزلة الدائرة ذات الاهمية القصوى في الترتيب الاداري للدولة العراقية. من هنا، تنبع، في اعتقادي، الحرية الواسعة التى منحت الى المعمار في مهمته لتجسيد "اميج" معماري، لتلك المنزلة الادارية والمالية اللتان تتمتع بهما الدائرة اياها. وذلك في الاتكاء على "فورم" مميز ومعبر، يكون زاخراً بالتفاصيل، وباستخدام مواد إنشائية ملائمة وحتى غنية، بالاضافة الى وجود فضاءات متنوعة وكثيرة. ولكون خطة التصميم راعت امكانية التوسعات المستقبلية، واستيعاب الموقع لمبانٍ اضافية، فقد اختير موقعا فسيحا في ضاحية "المعقل" لمجمع تلك المباني التى ستشيد لاحقاً. ينهض مبنى الموانئ في وسط ذلك الموقع كنواة لتلك المباني المستقبلية؛ وقد جاءت ابعاده القياسية كالاتي؛ الطول: 250 قدماً (76,2مترا)، والعرض: 70 قدماً (21,4 متراً)، والارتفاع (الى قمة القبة اللازوردية): 66 قدماً (20,12 مترا).
يستدعي المعمار ويلسون الصيغة التماثلية Symmetry، المحببة الى قلوب المعماريين الكلاسيكيين (والنيوكلاسيكيين ..ايضاً)، لإظهار هيئة المبنى المقترحة. ويغدو "السيمتري" هنا، بمثابة الحل الجاهز والناجز في تصور "الفورم" المستقبلي للمبنى العتيد. فالصيغة التماثلية كانت دوماً حاضرة في جميع تصاميم هذا المعمار المجد. ليس فقط لديه، وإنما هي الصيغة الاثيرة لدى "مراجعه" المحببين ايضاً، وخصوصا "مرجعه" القدير والمفضل "ادوين لاجنس" (1869-1944) Edwin Lutyens ، المعمار الانكليزي المعروف، وباني مدينة "نيو دلهي" العاصمة الهندية الجديدة؛ والذي عمل ويلسون معه كمعمار مساعد، اثناء وجوده في الهند، قبل ان يلتحق بالقوات البريطانية التى احتلت العراق سنة 1914، اثناء الحرب العالمية الاولى.
يتألف مبنى الموانئ، بالأساس، من جناحين بطابقين، تحتوي احياؤهما على الفضاءات المكتبية، ويلتقيان عند فضاء مركزي تغطيه قبة وسطية، صُبغ سطحها الخارجي بلون الشذر. وبالطبع، يختار المصمم موقعاً مميزاً لمدخل المبنى الرئيس عند تقاطع محور التماثل في منتصف المبنى، والمؤكد، زيادةً، بحضور القبة الملونة البارزة عالياً عن سطحه. ثمة ثلاثة عقود ترتفع بارتفاع طابقين، ينحصر موقعها ما بين كتلتين بارزتين قليلاً نحو الامام. يتجزأ سطحا كلتا الكتلتين بتقسيمات لنوافذ شاقولية ضيقة نوعا ما. ان مهمة وجود تينك الكتلتين مع العقود الثلاثة، هي لجهة تأشير حضور مفردة المدخل الرئيس في الواجهة المبتدعة، وتأكيد إظهار حرص المعمار في اعطاء اهمية مضافة الى وجود هذا العنصر ومكانته في التصميم (ثمة تشويهات طالت المبنى ومدخله في الوقت الحاضر، والمناسبة، تحتم علينا الطلب من المسؤولين باعادة المبنى الى شكله الاصلي، مع التنبيه بضرورة التعاطي مع المبنى بحرص وحذر تامين، لكونه يمثل نموذجا فريداً ومهماً لعمارة الحداثة العراقية الواجبة الحفاظ والصيانة). جدير بالتنويه ان اسلوب معالجة الجزء الوسطي لمبنى الموانئ، والمتشكلة من العقود الثلاثة، بالاضافة الى نوعية التفاصيل التزيينة فيها، سنشاهدها مكررة في مبنى "المختبر الجيولوجي" بمدينة "مسجد سليمان" في ايران، والمصمم من قبل المعمار ذاته، بعد مبنى البصرة بحوالي عقدين من السنين.
ثمة رواق معمد "يلف" المبنى من جميع جهاته، خالقاً طارمة مسقفة تعمل على تحييد الظروف المناخية القاسية التى تتسم بها أجواء المنطقة. ويرفع هذا الرواق من خلال سلسلة عقود واكتاف، سبق وان شاهدنا مثيلاً لها في جامعة "آل البيت" بالاعظمية ببغداد (1922-24) للمصمم ذاته. لكن العقود هنا، في البصرة، تبدو اكثر ثراءً في التفاصيل، وتنطوي على براعة في استخدام منظومة التناسب المصطفاة. تغطي القبة فضاءً مركزياً، يخترق كلا طابقي المبنى. ثمة رواق دائري مرفوع بواسطة اعمدة كسيت بالرخام، زيادة في الاحساس باهمية الحيز المصمم. بيد أن السلم الرخامي الذي يقود الى الطابق الاعلى، والذي جاء على قدر كبير من الفخامة التصميمية، والذي يذكرنا شكله واسلوب معالجته التكوينية، بذلك "السلم" الشهير الذي ابتدعه "لاجنس" في قصر "نائب الملك" بنيو دلهي، (والذي سيتبدل اسمه لاحقا الى "راشتراباتي بهافان" وتعني "دارة الرئيس")؛ جاعلا منه بؤرة الاهتمام البصري والتكويني لـمشهد "انتيرير" المبنى الداخلي، والذي مابرح ويلسون يعتبره احد الاحداث المعمارية المؤثرة في حياته المهنية، هو الذي سيظل يعيد تكرار توظيف هيئته في مبان اخرى، قام المعمار، بتصميمها في امكنة مختلفة. ولئن حافظ ويلسون على سمة الصفاء المشوب بالاختزال في تزيينات السلم الرخامي في مبنى الموانئ، فانه سارع الى توظيف سطوح الجدران المطلة عليه كمكان مناسب لاظهار براعته التصميمية والتزيينية في آن معاً، وخصوصا استخدامه لانواع رصف الطابوق المختلفة، واظهار خصائص تلك الخامة الانشائية، بصيغ مبهرة وشديدة الاتقان والحذاقة. مستلهما في نهجه التزييني، خصائص "حركة الفنون والحرف" Arts and Crafts movement الانكليزية، هو الذي كان احد مناصريها الاكفاء.
في مبنى "مديرية الموانئ العامة" تظهر العمارة، العمارة الجديدة والحداثية، بابهى صورها. انها تتراءى وكأنها "قصر" منيف، وامثولة جديدة وراقية لمباني المكاتب. وهي تبدو بحركة ايقاع عقودها المتوالية، و"المتوقفة" عند منتصف المبنى، ومن ثم المستمرة بذات الايقاع المتكرر، وكأنها نبرة لجملة موسيقية غنائية، تعيد الحانها، كلما تمعنا النظر الى المبنى متابعين تلك الحركة الايقاعية التى تولدها هيئات العقود الغارقة في ظلالها و"المرسومة" على سطوح المبنى المغسول بضياء اشعة الشمس الصافية. كأن عمارة المبنى، وتفاصيلها المكررة، تستحضر ايقاع ابيات قصيدة شعر عربية. كأنها بشموخها البنائي وقبتها الشاهقة اللازوردية، وخصوصية بنيتها المعمولة بالآجر المحلي، تتوق للتعبير عن انتمائها للمكان ولثقافة المكان المبنية، وتسعى وراء إظهار تعظيم خصائص تلك البيئة، فيما اذا قيض لها ان تكون بين يديّ معمار ماهر. فالعمارة مشغولة من قبل مصمم يعرف جيداً "صنعته"، ويدرك تماماً طبيعة المواد التى يتعامل معها. انها من دون شك اضافة مميزة الى بيئة البصرة المبنية، واحد مبانيها اللافتة، هي التى ارتقت لتكون "ايقونة" بصرية لها، وذاكرتها المعمارية التى لا يمكن محوها بسهولة. عندما اكتمل بناء "مديرية الموانئ" وظهرت بهيئتها المميزة والجاذبة، وصف الملك فيصل عمارتها، اثناء حضوره شخصيا الى البصرة لافتتاحها عام 1927، من انها "احدى الاعمال البنائية البارعة، والمعمولة بضمير حيّ".. نعم، "بضمير حيّ"!، ما اروع وادق انطباق هذا المعنى على عمارة المبنى المتحققة، والذي يشي، ايضاً، بنوع من التقدير والافتنان، الذي اراد الملك به الاحتفاء بجهد "صديقه" المعمار. اما نحن، فنجد من الصعب، على اية حال، عدم الاتفاق مع الملك، في ذلك التوصيف "الملكي" الحصيف!
و"جيمس موليسون ويلسون" معمار المبنى، ولد في 28 نيسان، عام 1887، في مدينة "دندي" بإسكتلندا في المملكة المتحدة. انهى تدربيه المعماري في مكتب محلي لمدة خمس سنوات، ثم عمل ، لاحقا، مع مكتب استشاري لندني. في سنة 1908، رافق المعمار الانكليزي المعروف" لاجنس" الى الهند، وبات ، حينذاك، احد معاونيه الاساسيين في تخطيط "مدينة نيو دلهي" وفي تصميم مبانيها المهمة. انضم الى القوات الانكليزية التى دخلت العراق، وعين سنة 1918، مديرا لدائرة الاشغال العمومية التى رأسها لحين رجوعه الى بلده بريطانيا سنة 1926. صمم كثيرأ من المباني المهمة، التى اعتبرت عمارتها، كنماذج مؤسسة لعمارة الحداثة بالعراق؛ منها "جامعة آل البيت" في الاعظمية ببغداد، 1922-24، ونادي العلوية (بطلب من مس غروترد بل)، ببغداد، عام 1921. وقصر الملك فيصل الاول (لم ينفذ) 1927، والميناء الجوي ببغداد (مطار المثنى) 1931، (بالاشتراك مع ميسون)، وكنيسة سان جورج في كرادة مريم (1936)، ومحطة قطار الموصل (1938)، و"مطار البصرة الدولي (بالاشتراك مع ميسون) 1938"، و"المحطة العالمية بالكرخ (1947-1952). وغير ذلك من المشاريع المهمة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. SHIBIB KAIS

    شكرا للاستاذ السلطاني لتفضله باعطائنا هذه الافكار النادره عن فن العمارة في العراق .. انا ابن البصرة لكني ماكنت اعرف هذه التفاصيل عن بناء مديرية الموانئ , سوى ان مهندسها كان بريطانيا , نتمنى المزيد للتعرف على هذا الفن الجميل .

يحدث الآن

امريكا تستعد لاخلاء نحو 153 ألف شخص في لوس أنجلوس جراء الحرائق

التعادل ينهي "ديربي" القوة الجوية والطلبة

القضاء ينقذ البرلمان من "الحرج": تمديد مجلس المفوضين يجنّب العراق الدخول بأزمة سياسية

الفيفا يعاقب اتحاد الكرة التونسي

الغارديان تسلط الضوء على المقابر الجماعية: مليون رفات في العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram