أجتزت أكثر من نصف حدائق ( تولريان ) في باريس ، حتى بان الطابور الطويل الذي شكلّه الناس وهم ينتظرون الدخول الى متحف الأورانجري ، وقفت في النهاية خلف الشخص الأخير الذي كان يحدث زوجته عن بعض تفاصيل المتحف وهو يحمل في يده دليل باريس السياحي . بقيت أنتظر ، يملؤني شغف كبير لرؤية معجزة أستاذ الرسم الأنطباعي مونية ( 1840- 1926 ) ، وأقصد سلسلة أعماله المتأخرة المسماة ( زنابق الماء ) . بعد فترة من الوقت جاء دوري بالدخول الى المتحف الذي اكتسب اسمه من أشجار البرتقال التي كانت تحيط بالبناية ، حتى وجدت نفسي وجهاً لوجه مع هذا الكنز العبقري ، حيث أعمال مونيه الممتدة في ثلاث قاعات بيضوية الشكل وكبيرة وتضاء بأنارة طبيعية من خلال السقف . كان امتداد اللوحات يتراوح بين 15 متراً وستة أمتار وأرتفاعها يزيد قليلاً عن المترين ، وقد رسم مونية هذه الأعمال بين سنة 1914 وسنة 1926 ، رسمها كلها من الذاكرة حيث أصيب بفقدان البصر تدريجياً في نهاية حياته . وبعد أن أكملها أهداها الى صديقه المقرب بول كليمنسو الذي كان يعتني به كثيراً ويعينه على الرسم في ظروف حياته الأخيرة . كانت هذه اللوحات العظيمة بعيدة عن متناول الجمهور سنوات طويلة الى أن وضعت في هذا المتحف ، ليطّلع الناس على هذا الكنز الفرنسي النادر .
تعتبر زنابق الماء أعظم ما رسمه الفنان مونيه على الأطلاق ، حين كان يسابق الزمن وهو يحاول أكمالها ويرمي كل هذه الألوان على القماشات العملاقة . أنه أمر غريب حقاً ، فكيف لرجل تجاوز الثمانين من العمر أن يرسم بهذه الطريقة المجنونة وينتح لوحات تحمل كل هذا السحر؟ هنا مع هذه اللوحات تذكرت ما قاله بيكاسو ذات يوم لزوجته فرانسوا جيلو حين سألته بأستغراب ( كيف ترسم واقفاً اكثر من ثماني ساعات في اليوم وقد تجاوزت السبعين من العمر ، ألا تشعر بالتعب ؟ ) فأجابها بيكاسو ضاحكاً (عادة ما أترك جسدي في الخارج أمام باب المرسم ، كما يخلع المسلمون أحذيتهم أمام باب المسجد ، اذاً أنا موجود بروحي فقط أمام اللوحة ، لهذا لا أتعب ) . نعم يبدو أن مونيه كان حاضراً أمام أعماله الباهرة بروحه أيضاً ، هذه الأعمال التي تشعر وأنت تشاهدها بأنك جزء من المكان ، بل جزء منها حيث تتحسس حركة الزنابق وأنعكاساتها على سطح الماء ، هنا ترى كل شيء متحركاً ويحيط بك من كل الجهات بشكل دائري وكأن اللوحات بانوراما حية تنبض بالحياة ، هي فعلاً خلاصة ما توصلت اليه المدرسة الانطباعية في المهارة والمعالجة والحرية في أستخدام الألوان القزحية الشفافة .
هناك خصوصية أخرى وتفرد في هذه الأعمال لا تحمله أية لوحات أخرى مرسومة عن الطبيعة ، وهي أن هذه اللوحات لا يظهر فيها الأفق ولا السماء أو الفضاء بل يظهر سطح الماء فقط وانعكاسات الضوء وأسلتقاء الزنابق بترف لا مثيل له ، لقد تعامل مونيه مع أعماله هذه برؤية فيها شيء من التجريد ، لهذا نرى تأثير هذه الأعمال واضحاً أيضاً فيما بعد على رسامي مدرسة نيويورك التجريدية ، ليس من ناحية الحجوم الكبيرة فقط بل بمعالجة هذه الحجوم بكل حرية وجرأة وخيال.
ومثلما عشت لحظات خاصة مع زنابق الماء هذه وأنا أحاول أن أمدّ يدي لأتحسسها بين أصابعي ، عرفت أيضاً لماذا يعتبر مونيه أهم رسام أنطباعي ولماذا جاء أسم الأنطباعية بسبب واحدة من لوحاته الشهيرة المسماة انطباع في ضوء الشمس.
الفنان الذي سابق العمى ليرسم أجمل لوحاته
[post-views]
نشر في: 13 يونيو, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...