(هذه مقالة من سلسلة من المقالات، الغاية منها أن يطّلع النشء الجديد،على بعضٍ من تقنيات جويس، لأنّ هذا الكاتب يعلّم كيفية القراءة التحليلية، كيفية التأليف، كيفية توظيف الثقافة). نشر الدكتور محمد درويش مقالة بعنوان "قراءة في الترجمة المصرية لرا
(هذه مقالة من سلسلة من المقالات، الغاية منها أن يطّلع النشء الجديد،على بعضٍ من تقنيات جويس، لأنّ هذا الكاتب يعلّم كيفية القراءة التحليلية، كيفية التأليف، كيفية توظيف الثقافة).
نشر الدكتور محمد درويش مقالة بعنوان "قراءة في الترجمة المصرية لرائعة جيمس جويس"، في صحيفةٍ، مقرّها لندن. تناول الكاتب بعض عيّنات من ترجمة المرحوم طه محمود طه، وقارنها بأصولها الإنكليزية، مبيّناً الأخطاء. ثمّ قال : "هي غيض من فيض من الأغلاط المتراكمة المتتابعة المتلاحقة نصّياً وأسلوبياً وبنائياً ما يفقد الترجمة مصداقيّتها بصرف النظر عن ضخامة اسم المترجم أو صغره، وكان أملي عند قراءة ردّ الأستاذ صلاح نيازي أن أجده وهو يكشف مثالب الترجمة المصرية وعيوبها البليغة لأن ذلك وحده يكفي مسوّغاً لتقديم ترجمة جديدة لترجمة يوليسيس...".
في الظنّ، أنّ الترجمات المتعددة لنصّ واحد من قبل عدّة مترجمين، لا تكون في معظم الأحايين، تكاسراً، أو تنافساً وكأنّ الترجمة حلبة دِيَكةٍ. كلّ ترجمةٍ جديدةٍ فهْم جديد. قد لا تكون له علاقة بما قبله حتى إذا أفاد منها. على هذا درج محرّرو شيكسبير، فظهرت أكثر من طبعة لكلّ مسرحية باسم محررٍ جديد.
شخصيّاً كنت قبل فترةٍ استزيد من معرفتي القليلة بـ : "اعترافات" أوغسطين. عثرت على أكثر من اثنتي عشرة ترجمة لها عن اللاتينية. يبدو أن كلّ مترجم ٍتفاعل معها تفاعلاً خاصّاً فانجذب لترجمتها. الترجمة بهذه المثابة كشرح ديوان شعر، لا يقتصر على شارح واحد.
الترجمة الجادّة، الترجمة المسؤولة، ليست ، ويجب ألاّ تكون، على سنّة ألفية آبن مالك :"فائقةً ألفية آبن معطي".
المرحوم طه محمود طه لا يمكن إلاّ أن يكون مترجماً جادّاً. فالرجل ترجم عام 1964 الفصل الرابع من يوليسيس ونشره، ثمّ ترجم عام 1965 الفصل العاشر. ثم أعدّ ونشر "موسوعة جيمس جويس " واستغرق إعدادها خمس سنوات. وبعد ذلك عاش بدبلن لمدة ثلاث سنواث، قبل أن يتفرّغ نهائيا ً لترجمتها. فرغ منها كاملة عام 1978. .أكثر من ذلك حصل المرحوم طه على منحةِ إجازةِ تفرّغ ٍمن الحكومة الكويتية قضاها في جامعة تولسا أكلاهوما بكلية الدراسات العليا، راجع فيها كما يقول،"النصّ مع عميدها الأستاذ توماس ستيلي رئيس تحرير مجلة :"جيمس جويس"، الفصلية وغيره من الأساتذة المتخصصين في جويس والأدب الحديث".(المقدمة: 12-13).
لا ريب، كنت مديناً للمرحوم طه في الجزء اليسير الذي قمت بترجمته من يوليسيس. ذكرتُ في المقدمة: "لقد ترسّمت خطى الدكتور طه محمود طه في ترجمته الأولى للرواية. كان قد افتتح طريقاً لم يقوَ عليه غيره...لولاه، لولا تدشينه، لما كانت لديّ أيّة شجاعة على الإقدام على الترجمة" (ص 7-8).
عود على بدء. نشرتُ بعض المقالات عن بعض اجتهادات المرحوم طه المستغلقة، ولكن- كما يبدو- لم يطلع عليها الدكتور درويش. فإكراماً لاهتمامه واهتمام الآخرين، أضع أدناه ملاحظات مبتسرة عن الفصل السابع.
لكن قبل ذلك، قد يجمل القول إن المرحوم طه، كرجل تربويّ أيضاً، كان معنياً إلى حدّ ما، بالقارئ فبسّط له المعنى على حساب تقنيات النصّ، فأهمل إهمالاً يكاد يكون تامّاً بما يُعرَف بالـ : Stream of consciousness لدى جويس أيْ تيار الوعي.
المعروف كما جاء في "قاموس المصطلحات الإنكليزية"، إن تيّار الوعي ابتدعه هنري جيمس في كتابه :"مبادئ علم النفس" (1890)،ولكنّ الذي طوّره فعلاً هو روائي فرنسي مغمور يُدعى ادوار دوجاردان. إلاّ أن جيمس جويس استنفد كل احتمالات هذه التقنية وأوصلها في الغالب إلى الذروة في يوليسيس.
في الظنّ أن تيار الّوعي، ومايستحضره من تداعيات لا حصر لها، من تناصّ لا حصر له، هو أكبر صعوبة شائكة بوجه كلّ ترجمة.
أدناه بعض الأمثلة عن تيار الوعي وكيف انخذل فيها المترجم.
لنأخذْ هذه الأسطر من المقطع المعنون :"عزيزتي دبلن الحقيرة":
أناس من دبلن
- راهبتان من دبلن منذورتان لفيستا Vesta( ربّة" الموقد والوطن")، قال ستيفن. مسنتان وتقيّتان. عاشتا بشارع فمبولي لخمسين وثلاث وخمسين سنة.
- أين ذلك؟ قال البروفسور.
بالقرب من بلاك كبتس، قال ستيفن.
ليلة رطبة تفوح برائحة خبز يثير الشهية. على الحائط. وجه كمادة شمعية ذائبة تلمع تحت خمارها القطني. قلبان مهتاجان. مدوّنات أكاسيا . أسرعْ، يا محبوبي!
إفعلها الآن . حاول الإراقة. لتكنْ حياة".
يقول البروفسور في النهاية :"راهبتان حكيمتان".
لا بد ّ من الإلمام بالمعلومات التالية في الأقلّ قبل الشروع في الترجمة. ( المعلومات مستقاة من كتاب ( Ulysses Annotatedأوّلا، العنوان المثير هذا "عزيزتي دبلن الحقيرة"، من صنع أديبة إيرلندية تدعى ليدي سدني مورغان 01780 -1839). أعطى جويس لمدينة دبلن بهذا الاقتباس، بعداً ثقافياً وبعداً آخرَ زمانياً، أي أنّ دبلن العزيزة منذ ذلك التأريخ ما تزال، على حالها، حقيرة.
تكاد تكون كلّ عبارة هنا جملة موسيقية خاصة ومستقلّة لا تبرز شخصيّتها إلاّ بما قبلها وما بعدها. تشكّل بمجموعها وشيجة موسيقية متضامّة. فـ : "راهبتان" ترجمة لـ :
(عذراوان) تتناسبان مع راهبات ربّة الموقد والوطن عند الرومان. لـ:"دبلن" هنا وقع لتماثلها مع روماVergins
حيث معبد فستا الثابت هناك، كثبوت وجود الراهبتين في شارع واحد، لأكثر من خمسين سنة.
حينما ذُكر شارع فمبولي، تداعت أفكار ستيفن باللاّ وعي إلى الليلة التي التقى فيها بمومس هناك. كان فيه جوع وخوف، وذوبان حار لا يقوى على التماسك. حمّى جنسية. كانت رائحتها مثل رائحة خبز مثير للجوع. اشتهى. تردّد. تحثّه. لا يهمّ على الحائط. إفعلها. طلبت منه أن يسرع في الإراقة. من أجل الحياة.
"لتكنْ هناك حياة"، قالت له:Let there be life. كيف تداعى الفكر هنا إلى عملية الخلق بمعناه الفني والديني؟ ما التماثلات بينهما؟ المقطع بكامله مبنيّ على التماثلات. جاء في سفر التكوين:"وقال الله ليكن نور فكان نور"(1:3).
ما علاقة مدوّنات أكاسيا Akasia Records ؟( الأكاسا في العقيدة الثيوصوفية هي الوسيلة الوحيدة الكاملة والذاكرة التي لا تفنى للطبيعة الخالدة، كلّ فكرة، صامتة أم منطوقة، تبقى فيها سرمدية).
لماذا قال البروفسور في النهاية :"راهبتان حكيمتان؟ أين الحكمة؟ أين تداعيات اللاّ وعي؟ الحكمة كانت على غرار قصة المسيح الرمزية عن العذراوات العشر.(متّى:25: 1-13).
قلنا لا بدّ من معلومات كهذه ، قبل الشروع في الترجمة. يبدو أن هذه المعلومات لم تتيسّر للمرحوم طه، فجاءت ترجمته بالمنسوق التالي:
"إيرلنديون من دبلن
- عاشت عانسان فيستاويتان من دبلن، قال ستيفن. عجوزان متدينتان. واحدة في الخمسين والأخرى بسن ثلاثة وخمسين عاما في حارة فومبلاي
- أين هذا المكان؟ سأل البروفسور
- بالقرب من بلاك بيتس
ليلة رطبة تفوح برائحة عجين مسغب.على الحائط. وجه يلمع وَدَكُهُ تحت شالها الصوفي. قلوب مسعورة. في السجلات الأكاسية. بسرعة يا لوحى!
لنكمل الآن. تجرّأْ. لتكن حياة."
من أين جاءت :"عانسان"؟ لا وجود لهما في النصّ. إنهما عذراوان لأنهما منذورتان. بإرادتهما..إنهما راهبتان منقطعتان. المرأة العانس في أبسط معانيها هي التي حاولت الزواج ولم يحالفها الحظّ كما يقولون. وحينما وصفهما بـ :"فيستاويتان" وهي صفة غامضة وربما منفرة،جعلهما منكودتين، ولعلّةٍ فيهما. دعى المترجم شارع فومبلي، حارة إنما جعلهما وكأنْ غير معروفتين. بينما الكل يعرفهما لأنهما تعيشان ومنذ أكثر من خمسين عاما في شارع واحد مما يوحي أنهما محدودتان، ذهناً وتجربة، وحياتهما قفار خالية من أيّ تنويع، أو عمق.
تزداد النفرة من المرأتيْن في ترجمة المرحوم طه حينما جعل" الليلة الرطبة تفوح برائحة عجين مسغب". ما العجين المسغب؟ وتزداد النفرة أكثر حينما جعل الوجه "يلمع وَدَكُه"،أي أنها لم تغتسل.
بينما الصورة التي رسمها جويس للمومس دقيقة وعميقة ونقية. أوّلاً لأنّه قرن الوجه بالشمعة، وقرن حمّى الجسد بشمع ذائب. أمّا عمق الصورة فيتبين في الوشاح وكأنه غلالة عروس. ثمّ هل هناك أنقى من بياض القطن؟
على أية حال لم يكنْ صوفاً كما في ترجمة المرحوم طه.
هذا مثال آخر عن تداعيات تيار اللاّوعي، وكيف تُصبح الكلمات معمّيات لا نفاذ إليها. ففي المقطع المعنون "إرحمنا ياربّ":Kyrie Eleison) / كتبها جويس بالإغريقية وهي تشكّل جزءاً من القداس).
يدور الحديث هنا حول أفضلية اللغة الإغريقية على اللغتين العبرية والإنكليزية. فاللغة الإغريقية هي لغة العقل. ومن العقل ينتقل جويس إلى النقيض، أي العاطفة الدينية التي لها قوّة الغريزة. ينتقل بعد ذلك بسخرية، إلى "الفروسية الكاثوليكية"وكيف آنهارت في معركة الطرف الأغر، ومن الطرف الأغر إلى الإسبارطيين وكيف دمّروا أساطيل أثينا. بعد سنوات يظهر قائد أثيني آسمه بيروس، ويستمر السرد بالمنسوق التالي:
" قام بيروس وقد ضلّله تفسير حلم، بمحاولة أخيرة لاسترداد سلطة الإغريق. مخلصون لقضية يائسة.
ابتعد عنهم بخطوات واسعة صوب النافذة.
- مضوا إلى المعركة، قال المستر أومادن بيرك باكتئاب، ولكنهم يخسرون على الدوام.
- بو هو! بكى ليتهان بصوت ضئيل. بسبب حجارة وقعت عليه في النصف الثاني من النهار. بيروس، مسكين، مسكين، مسكين!".
في هذه الأسطر المقتبسة، أربعة استغلاقات مبهمة لا يعطيك فيها جويس أية إشارة إلى مصدرها. أية إشارة إلى معناها. أية إشارة إلى ضرورة وجودها. ولأنها غامضة فما في يد المترجم حيلة سوى ترجمتها حرفياً كما فعل المرحوم طه.
الجمل المبهمة في المقطع أعلاه هي: (1): بيروس وتفسيرحلمه. (2): مخلصون لقضية يائسة. (3) مضوا إلى المعركة. (4): بسبب حجارة.
في هذه الجمل الأربع، حوادث وقعت في جغرافيات وأزمنة مختلفة.
لنتعرف ْ أوّلاً ، وإنْ باختصار، على خلفيات هذه الجمل، حتى يلمس القارئ عملياً كم هي صعبة قراءة يوليسيس، ناهيك عن ترجمتها.
قام بيروس القائد الأثيني في نهاية حكمه، وبعد فشله بإيطاليا وصقلية بهجوم على إسبارطة. أمّا الوحي الذي ضلّل بيروس، فهو حلم فسّره على أنّه وعدٌ بنجاحه في محاولته لقهر إسبارطة، لكنّه اندحر، وباندحاره سقطت أثينا.
لكن لماذا مخلصون لقضية يائسة؟ وما سبب توقيتها؟
أوّلاً، الموضوع السابق في هذا الفصل معنون:" قضايا يائسة". أشار فيه جويس إلى ثائر إيرلندي اسمه روبرت أمري (1776-1802).أراد أن يحتلّ قلعة دبلن، وقد وعده نابليون بإمداده بالعون. لم يأتِ العون لا من نابليون ولا من الإيرلنديين أنفسهم. ألقيَ القبض عليه وشُنِق وقُطعت رقبته. لكنْ رغم فشله هذا، إلاّ أنه نجح كأسطورة ممجّدة وحيّة بين الإيرلنديين. يقول شارح يوليسيس:"يكمن نجاح أسطورة" أمَرِي" في الحاجة لتمجيد الفشل. فالفشل التراجيدي عاد فأصبح جزءاً من الهوية الإيرلندية، وهو شئ لا يمكن تمييزه عن القضية نفسها".
أمّا مضوا إلى المعركة: فهو عنوان قصيدة للشاعر الإيرلندي ييتس "وردة". أعيدت كتابة القصيدة وأصبح عنوانها:"وردة المعركة". إقتبس ييتس العنوان الأوّل من النعت الذي أعطاه ماثيو ارنولد لكتابه :"دراسة في الأدب الكلتي"(1867):"مضوا إلى المعركة، لكنهم يخسرون على الدوام".
أما قصة الحجارة التي أماتت بيروس، فهي أنّ هذا القائد، قطع على نفسه عهداّ بنصرة أحد المواطنين في نزاع داخل المدينة. إلا أن بيروس وقع في الفخ، وحينما حاول الهرب من المدينة، اشتبك معه أحد الأشخاص في شجار. وفي الوقت الذي كان فيه على وشك قتل المهاجم، قامتْ أُمُّ المهاجم برميه بآجرّة من أعلى البيت. صُعِق بيروس، وسقط من الحصان ، فقُتِل.