تقول ريبيكا نيو برغرغولدشتاين عن لذة الفلسفة ( تصادف يوماً أن وقع بيدي كتاب "قصّة الفلسفة" لويل ديورانت و كنت آنذاك في الحادية عشرة أو الثانية عشرة و كان الفصل الخاص بـ ( أفلاطون ) هو تجربتي الأولى في التلذّذ بالنشوة الذهنية و أذكر حينها
تقول ريبيكا نيو برغرغولدشتاين عن لذة الفلسفة ( تصادف يوماً أن وقع بيدي كتاب "قصّة الفلسفة" لويل ديورانت و كنت آنذاك في الحادية عشرة أو الثانية عشرة و كان الفصل الخاص بـ ( أفلاطون ) هو تجربتي الأولى في التلذّذ بالنشوة الذهنية و أذكر حينها كيف شعرت أن روحي غادرت جسدي كلياً في تجربة عجيبة عصية على الوصف..)
نشهد في زمننا الحاضر أثر التطورات الهائلة التي يجترحها العلم و التقنية و نشهد بذات الوقت كيف غيّرت هذه التطورات و بطريقة هائلة فهمنا لكينونتنا الفيزيائية و العقلية إلى حدّ بات فيه من السهل على البعض أن يعدّ الاشتغال الفلسفي فعالية غير منتجة ولا جدوى منها ، و تشخص أمامنا المقولة التي أطلقها الفيزيائي الكبير ( ستيفن هوكنغ ) الذي جادل بقوة و دافع عن فكرته النبوئية القائلة بالموت الوشيك للفلسفة في عالمنا المعاصر ، و لكن الأمر يختلف تماماً مع الفيلسوفة والروائية ( ريبيكا نيوبرغر غولدشتاين Rebecca Newberger Goldstein)
(لمعلومات أوسع عن الفيلسوفة والروائية غولدشتاين يراجع القسم الأول من الحوار في ثقافية المدى)
× في كتابك الأحدث المعنون (أفلاطون في عصر غوغل : الأسباب الكامنة وراء عدم موت الفلسفة) تردّين على النقد القائل بان الفلسفة لا تشهد ارتقاء مماثلاً للارتقاء المتسارع في الحقول الأخرى ، كما تردّين على الذين يروّجون لهذا النقد بالمثال القائل أن أفلاطون يعدّ شخصية مهمة و مؤثّرة في الفلسفة كما كان على الدوام خلال العقود المنصرمة و هذا ما لا يحصل في العادة مع الشخصيات في الحقول المعرفية الأخرى التي يطالها الوهن مع مرور الوقت؟
- هناك قناعة راسخة لدى أوساط الاكاديميين و العامّة أن الفلسفة لا تملك الوسائل اللازمة لتوفير إجابات للمشكلات التي تعترضنا ، و أن كل ما تفعله هو أن تكتفي بوضع المشكلات في إطار مقبول و تنتظر وصول العلماء إلى الإجابات المقبولة ، و ثمة - من ناحية أخرى - ميل لدى بعض العلماء يمكن وصفه بكونه " ميلاً مضاداً للفلسفة " إلى حدّ أنهم باتوا يأنسون لفكرة التبشير بقرب موت الفلسفة . الحق أننا شهدنا الكثير من معالم الارتقاء الفلسفي و لكنه في العموم ارتقاء عصيّ على المعاينة المباشرة ، و يكمن السبب وراء هذا التناقض الإشكالي أننا نستخدم الوسائل الفلسفية ذاتها في الإطلالة على العالم الذي نشهد ارتقاءه في كافة الحقول المعرفية ، و في العادة يكون من الصعب تماماً أن نشهد الارتقاء في وسائط الرؤية بل يحصل ان نكتفي برؤية الارتقاء فيما نحن نطل عليه !! . لنتحدّث قليلاً بشأن أفلاطون : أرى ان الرجل كان سيطاله العجب و تتملّكه الدهشة لو عرف بالمديات التي ارتقينا إليها اليوم لا في المستويين العلمي و التقني فحسب بل في ذات الحقل الأخلاقي الذي يعدّ ميدان اشتغاله الأرحب و الأحبّ إلى نفسه ، و لكن يحصل في العادة أننا نتعامل مع الكثير من الأفكار كما لو كانت افكاراً معلّبة و جاهزة الصنع ، و إن أفكاراً مثل : الطبقة ، الجندر ، الدين ، الإثنية ، تبدو غير مؤثرة متى ما تعلق الأمر بالحقوق الفردية التي لها الأسبقية و العلوية على ما سواها ، و لكن الأمر مختلف بقدر ما مع افلاطون فقد وضع الرجل عبارة في ( جمهوريّته ) تستبطن مفهوم العدالة و المساواة بالقول أن "على كلّ فرد في الجمهورية أن يعامل جميع الإغريق بذات الطريقة في المعاملة" ، ولكن لم يكن ليمرّ بباله هل ينبغي لهم أن يعاملوا البرابرة ( غير الإغريق ) بذات الطريقة !! . إنّ من المدهش للغاية معرفة كم نحتاج من وقت للارتقاء في أي حقل معرفي و لكننا نرتقي في نهاية المطاف ، و في العادة فإن أفكارنا الفلسفية و ما تترتّب عليها من مواضعات هي التي يطالها الارتقاء أولاً و من ثم تتبعها الفعالية البشرية و الحراك الاجتماعي و العواطف الجامحة و الدافعة باتجاه التغيير الاجتماعي اللازم لإنجاز الارتقاء في أيّ حقل معرفي.
× هل تلمحين تغيّراً ما طرأ في شعبية الفلسفة هذه الأيام بالقياس عمّا كانت عليه أيام دراستك لها ؟
- الفلسفة لن تموت كما أرى ، لكن هذا لا يعني أبداً أن شعبيتها و قدرتها على استثارة التساؤل و الاستقصاء لم تنحدرا عمّا كانتا عليه من قبل ، فقد بات طلبة كلياتنا اليوم أكثر ميلاً للبراغماتية الطاغية و اقلً تعلقاً بالرؤى الفلسفية التي كانت تفجّر الثورات من قبل ، كما أن الطلبة باتوا يلهثون وراء وظائف عالية الدخل تؤمّن لهم الغنى السريع و لم يعودوا يفكّرون بشيء غير هذا .
× ما التساؤلات التي ترين فيها الموضوعات الفلسفية الأعظم في عصرنا الحالي؟
- يطرح النمو المتعاظم في المعرفة العلمية تساؤلات فلسفية جديدة على الدوام ، من أمثلة : العوالم المتعدّدة ، من نكون في الكون ، و لا زالت الفيزياء تمطر عقولنا كل يوم بوابل من أمثلة هذه التساؤلات الفلسفية المدهشة إلى حد صار فيه بعض هذه التساؤلات يصنّف بانّه واقع في الفضاء الملامس للاشتغالين العلمي و الفلسفي في ذات الوقت ، و تطرح التطوّرات الهائلة في العلوم المعرفية و العصبية Cognitive Science & Neuroscience آفاقاً واسعة أمام الاشتغالان الفلسفية التي تتمحور على أسئلة من نوع : من نحن ؟ و كيف نتعامل مع موضوعة الحتمية و الإرادة الحرة ؟ و هي امتداد للاهتمامات الفلسفية التي شغلت الفكر الفلسفي منذ نشأته و حتى اليوم.
× نشرت كما نعلم كتابين غير روائيين ، و سبع روايات ، و عدداً من القصص القصيرة . ما الغرض الأساسي الذي يكمن وراء كلّ ما كتبت ، و ما الذي تطمحين أن تفعله كتاباتك في القارئ؟
- طموحي في جميع أعمالي الروائية و غير الروائية هو أن أثير الرغبة في البحث الشغوف عن التساؤلات العميقة في حياتنا ، و أرى أن الفصل المصطنع بين التفكير و الشغف أمر سيئ للغاية و لا أطيق ذلك الهراء الذي يلهث وراءه بعض الكتّاب المهووسين بالفكرة القائلة "إن الذين يطرحون أسئلة عميقة وبالغة الجدية هم في أشدّ الحاجة إلى امرأة تلقّنهم لغة المشاعر الدافئة و تطري وجودهم الكئيب بلمستها الحانية " . التفكير بذاته فعالية باعثة على الشغف ، أما مسألة الحاجة إلى امرأة فالكل يحتاج وجودها بجانبه سواء أكانوا يفكّرون في أكثر الأسئلة عمقاً أم لا يفعلون.
× لنتحدّث قليلاً عن انتقالتك من الفلسفة إلى الرواية . ما الذي دعاك إلى هذه الانتقالة؟
- في سنة ما واجهت الكثير من الهيجان العاطفي : فقد توفّي والدي وولدت ابنتي الأولى في ذات السنة وهكذا كان عليّ أن أواجه الأسئلة الكبيرة والجوهرية عن الموت و الحياة و الولادة و تلك أسئلة لم أكن مدرّبة على التعامل معها بجدّية لائقة بسبب من خلفية دراستي الفلسفية التحليلية الصارمة . عندما كنت في الكلية درست الكثير في موضوعات فلسفة العلم و المنطق الرياضياتي و لكن الغريب أن أحد الطلبة في ذلك العهد لو تجرّأ و سأل " ما المعنى من وراء كل ما نفعله هنا ؟ و لماذا نحن في الكلية ؟ " لكان سيواجه حتماً بعاصفة من الازدراء و السخرية !! لأننا لم نكن نتدرّب جدياً على التعامل مع الأسئلة الكبرى في الحياة بل كنّا ننغمس في تفاصيل نظرية بالغة الصرامة و الدقّة و هي على أهميتها لم تكن لتكفي في شحن بطاريتنا المعرفية و الانطلاق في المغامرة الوجودية الساحرة بكل ما تضمره لنا من مفاجآت غير محسوبة أو متوقّعة.
× يوصف ( كاس سليتزر Cass Slitzer ) و هو الشخصية المحورية في إحدى رواياتك بأنه " غير المتديّن الطافح بالروح " . هل ترين نفسك مناظرة له في هذا التوصيف؟
- هذا سؤال لا يخلو من طرافة تنطوي على إحساس بتناقض مصطنع : إنّ ما أعنيه أنا بامتلاك الفرد لروحه هو بالضبط القدرة على امتلاك الدهشة الوجودية إزاء ما نشعر و ما نرى و ليس للأمر بأكمله أية علاقة مع كون المرء متديّناً أم غير متديّن ، و لابد هنا من التذكير ان كثيراً من العلماء و الرياضياتيين العظام امتلكوا هذه الدهشة الوجودية التي لا تقتصر على الأدباء و الفنّانين.
× ما الذي تطمحين لقرّائك ان يخرجوا به من وراء قراءة أعمالك ؟
- أطمح إلى أمرين جوهريين : الأول هو التأكيد على الطبيعة المتعددة الوجوه للدين و انّه أمر أبعد مدى بكثير من مجرّد الاعتقاد بوجود الله ، و هو جوهري و لصيق بطبيعتنا البشرية الجوّانية كما يخبرنا بذلك علماء البيولوجيا الارتقائية ، و الأمر الثاني إنني أطمح دوماً إلى إعلاء شأن الحب الرومانتيكي إلى حدّ جعله ديناً مشاعاً بين الناس لأنني أحسب أن ما من أحد لا يعتقد بأهمية الحب و ضرورته القصوى للكائنات البشرية.
× تطفح رواياتك بالكثير من الفيزيائيين و محاولاتهم الدؤوبة في إيجاد إجابات للأسئلة الفلسفية الكبرى . هل فكّرت يوماً ان تكوني فيزيائية؟
- نعم بالتأكيد فقد حصلت على شهادة الدكتوراه في برينستون في موضوع يختص بفلسفة العلم و درست الكثير من الفيزياء أثناء سنواتي الأكاديمية و لا أعرف إن كنت أصلح لأكون فيزيائية مرموقة.
× كتب زوجك ( ستيفن بنكر Steven Pinker ) المتخصص في العلوم العصبية كتباً عدةً من بينها : ( مادة الفكر The Stuff of Thought ) و ( كيف يعمل العقل How the Mind Works ) و التي يتناول فيها على التوالي تعقيدات اللغة و الجوانب السايكولوجية للدماغ . هل ثمّة تداخل ما بين عملك و عمل زوجك؟
- أستطيع القول اننا نتشارك الكثير من وجهات النظر التي تشكّلت لدينا قبل وقت طويل من زواجنا ، وهنا أشير بخاصة إلى قناعتنا الراسخة في ان النظام الأخلاقي لا ينبع من أية مواضعات او خلفيات لاهوتية ولا يستند اليها..
× و هل ثمّة من فكرة او قناعة تختلفين بها مع زوجك؟
- أعتقد بوجوب وجود ما أختلف به مع زوجي لأن ذلك سيجعل حياتنا أكثر إمتاعاً ، و ربما كانت مملّة بعض الشيء في الوقت الحاضر لأن لدينا ذات القناعات و الأفكار المشتركة.