TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > ساراييفو وجماليات المقاومة

ساراييفو وجماليات المقاومة

نشر في: 17 يونيو, 2014: 09:01 م

1-2
الى صديقي المقاوم، كاظم غيلان
لم يبق أحد أميناً للنادي القديم، إلا صمد الدين محمدونوفيك، ليس لأنه رجل عنيد، إنما لأن الأمر بالنسبة إليه له علاقة بفلسفته للحياة، من الصعب عليه تخيل حياته دون المكان القديم، صحيح أن بقية زملائه انتقلوا إلى مكان آخر، إلى الجزء الشمالي من المدينة، الحي القديم، إلا أنه أكثرهم مواظبة على المجيء هنا، هذا هو ديدنه مع كل علاقاته القديمة، ليس بما يتعلق بهذا المكان وحسب، بل بالمدينة كلها؛ فرغم المصائب التي حلت بالناس، وبزملائه من كل الطوائف، بالرغم من التراجيديا الشخصية التي عاشها هو ذاته : سقوط زوجته قتيلة بنار أحد القناصين، وموت ابنته الوحيدة بحادث سيارة، وهجرة معظم أفراد عائلته ، إلا أن القاص والروائي صمد الدين محمدونوفيك  يشعر بأن جذوره في هذه المدينة، كلا لا يريد الذهاب إلى مكان آخر. في الحقيقة يصعب عليه الانفصال عن إنسان أو عن شيء ارتبط به أبداً، الانفصال يعني له الموت، وهنا، كلما عاد للمكان القديم، يشعر بأنه ليس الوحيد الذي لم يمت، إنما المدينة أيضاً.
المكان الذي يعني لمحمدونوفيك الكثير، والذي زارته مجموعتنا (وفد اتحاد الإعلام الألمان)، هو "نادي الكتّاب في ساراييفو"، المتكون من صالة شتوية كبيرة وحديقة خلفية جميلة ( ذكرني شخصياً بمبنى اتحاد الأدباء في بغداد قبل إطباق الكوارث على البلاد العراقية هناك)، والذي يقع على بعد عشرين متراً من فندق "الهوليدي آن" ومبنى البرلمان السابق في ساراييفو. "الهوليدي آن" الذي كان مكان الصحفيين والوفود الأجنبية إبان حرب البوسنة والهرسك، وعلى مدى سنوات حصار ساراييفو الثلاث، أعيد ترميمه الآن، على عكس مبنى البرلمان، الذي ما زال بدون ترميم، يقف شاهقاً مثل هيكل عظمي. في تلك الأيام ورغم القصف الشديد، لم يتوقف أدباء البوسنة والهرسك المقيمون في ساراييفو من اللقاء هنا في ناديهم. وفي الصالة الشتوية، التي تجولنا فيها بصحبة أيريش راتفيلدير، الصحفي الألماني المشهور، مراسل صحيفة "التاتز" اليومية في دول البلقان، شاهدنا عشرات الصور التي تؤرخ جلساتهم تلك، أيام الحصار. نوع من العناد الإنساني، أو الجمالي كما أطلق عليه بيتر فايس في ملحمته المشهورة "أستيتيك المقاومة". الإصرار على العيش والصداقة واختراع الأفراح الصغيرة، والكتابة عن كل موضوع تريد الحرب قتله، تلك هي وسائل المقاومة التي يملكها الكتّاب في هذه الأزمان.
في المكان ذاك، جلس كتّاب ومثقفو ساراييفو، يتقاسمون مائدة يأس واحدة، يكتبون ملحمة ساراييفو ضد القوميين، الغزاة واللصوص والمجرمين؛ كانوا يمثلون كل القوميات والطوائف التي تشكل بلاد البوسنة والهرسك: صرب وكروات وبوسنياك (Bosniac كما يصر البوسنيون على تسمية أنفسهم، والتي تعني ترجمتها حرفياً: بوشناق)،. ساراييفو كانت بالنسبة لهم مشروع حياة، لأنها بالنسبة لهم خلاصة بلاد البوسنة والهرسك، بلد القوميات المتعددة، وسقوطها يعني سقوط ذلك المشروع، لذلك وقف هؤلاء الكتاب إلى جانب إخوانهم بالمواطنة من سكان المدينة الذين أصروا هم الآخرون على مقاومة الغزاة والعنصريين...."إنهم ذاتهم يشكلون اليوم الحركة الأدبية (ساراييفو 99)، وانتقالهم للمكان الجديد لا يعني تخليهم عن مشروعهم الأصلي، أنه نوع من تغيير المكان"، يقول صمد الدين، ربما لأن النادي كان مكاناً رسمياً لاتحاد الكتاب الرسمي، في زمن يوغسلافيا الشيوعية، وسابقاً، كان من الصعب العثور على مكان بديل، كان عليهم الدفاع عن مشروعهم هناك، اليوم باستطاعتهم الذهاب إلى أي مكان. الشباب منهم، من فنانين ورجال مسرح وتشكيليين يزورون مقهى المتروبولس، أما هم فيجلسون في عند "ملايكا"، من النادر أن يزوروا المكان السابق، وحده صمد الدين ظل أميناً لعاداته القديمة، الذهاب الى نادي الأدباء في ساراييفو. (لا أدري عندما رأته، لماذا تذكرت صديقي كاظم غيلان؟ فلا أظن أن المقاوم كاظم كما عرفته منذ كنا شبابا صغارا ندرس في المتوسطة سوية، سيغير من مكان جلوسه من اتحاد الأدباء في بغداد إلى مكان آخر، ولا يهم ما سيحدث لبغداد)!
 يتبع

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram