TOP

جريدة المدى > عام > من مزالق ترجمة يوليسيس - القسم الثاني

من مزالق ترجمة يوليسيس - القسم الثاني

نشر في: 20 يونيو, 2014: 09:01 م

لنتوقّفْ قليلاً, ونتمعّن في ترجمة المرحوم طه التي جاءت بالمنسوق التالي:وقام بيروس بمحاولة أخيرة، وقد أضلّه وحي، لاستعادة أمجاد اليونان. وفياً لقضية خاسرة.تمشّى بعيداً عنهم نحو النافذة- لقد كانوا يسيرون للحرب، قال مستر أومادن بيرك بحزن، ليفنوا دائما

لنتوقّفْ قليلاً, ونتمعّن في ترجمة المرحوم طه التي جاءت بالمنسوق التالي:
وقام بيروس بمحاولة أخيرة، وقد أضلّه وحي، لاستعادة أمجاد اليونان. وفياً لقضية خاسرة.
تمشّى بعيداً عنهم نحو النافذة
- لقد كانوا يسيرون للحرب، قال مستر أومادن بيرك بحزن، ليفنوا دائماً.
- بوهو هوّ! بكى لينيهان بأنين خافت. وبسبب طوبة أردته قتيلا في النصف الأخير من الحفلة. بئس بئس بئس بيروس!".

قد لا يجد القارئ غير المدرّب، على القراءة التحليلية، أي خلل في الترجمة، ما دام لا يعرف الأبعاد الخافية للجمل أعلاه ، وهي نفسها كانت في الغالب خافية على المترجم.

هل كان غرض بيروس استعادة أمجاد اليونان، أم استعادة السلطة؟ هل كان متهورا أم متحمساً؟ وكيف عرف المترجم أنّه كان وفيّاً لقضية خاسرة"؟ لا سيّما وإنه مقتنع كل الاقتناع بحلمه الذي زيّن له النجاح. أم أنّ جويس انتقل باللاّوعي إلى الشعب الإيرلندي وكيف كان وفيا لقضية روبرت امري التي أشرنا إليها قبل أسطر، رغم فشل محاولته؟
أكثر من ذلك هل قُتِل بيروس في حفلة أم في معركة؟ ولماذا بئس بئس بئس"؟. ألا تشكّل هذه الـ:"بئس" موقفاً معاديا من لدن المترجم تجاه بيروس؟كان جويس يرأف ببيروس فقال: Poor, poor, poor أي مسكين ، فكيف أصبحت بئس؟ ثمّ أين الحفلة التي قُتل فيها بيروس"؟.
نتيجة هذه اللا دراية بخلفيات النص، ارتبك المترجم في نقل تقنيات جويس. لا عجب إنْ باتت الجمل سردية مثقلة بالروان ففقدت لذعتها ومفاجآتها. خصوصية الكاتب بتقنياته، لا ريب.
ذكرنا أنّ جويس قارن في البداية بين اللغة الإغريقية، لغة العقل، وبين العبرية والإنكليزية. ثم قارن بين الحضارة الإغريقية والحضارة الرومانية. قارن بين انهيار "الفروسية الكاثوليكية "متمثلة بانهيار أساطيل نابليون وكان كاثوليكياً، (دون أن يذكر اسمه)، مع انهيار الأسطول الأثيني على يد الإسبارطيين. أوصلنا جويس بعد ذلك إلى بيروس. 
هذه المعلومات الحربية صُوّرت في النص كأمواج متلاطمة، وكأنها بلا زمن وبلا جغرافية. الأمواج عادة متداخلة. لأنها بلا تأريخ وبلا زمن. لا يمكن فصل موجة عن موجة، ولكنها بمجموعها بحر.
قابل جويس هذا البحر بإيقاع متشابه في الأسلوب. انتقالات سريعة. كمن يراقب معركة محتدمة. الأجساد تتداخل.
عند هذا التوقيت قال جويس :"ابتعد عنهم بخطوات واسعة صوب النافذة". الخطوات الواسعة مهمة جدّاً وكأنه وبسبب مما سمع من أهوال دخل في قلبه الرعب. كأنْ سمع شيئاً في الخارج، فذهب صوب النافذة. من هنا تأتي أهمية توقيت جملة :"مضوا إلى المعركة"، وكأنه كان يراقب أناساً مرّوا وهم في طريقهم إلى المعركة.
الفشل في هذه المعركة يتناده مع فشل بيروس. 
ترجم المرحوم طه هذه التقنية الفريدة بشكل مغاير. قال:
"تمشّى بعيداً عنهم نحو النافذة". ألا تدلّ تمشّى على بطء في الحركة؟ على لا أبالية من نوع ما؟ على النفرة مما دار من حديث؟ بالإضافة فإن: "بعيداً" تقوّي الافتراضين السابقيْن، وتدل على شساعة المكان بينما كان المكتب ضيّقاً. 
ثمّ قال :"لقد كانوا يسيرون إلى الحرب"
أضاف المترجم هنا كلمة :"كانوا" فأصابت الجملة بالتلف. ذلك لأنه جعل الحدث تأريخاً عفى وليس واقعاً استحضره تيار اللاّوعي.
أما ترجمة :"But they always fell" بـ: ليفنوا دائماً، فقد يكون الاجتهاد فيها غير دقيق. يفنون غير يخسرون، لأنك في الخسارة قد تجدد قوّتك وتعاود الكرّة كما فعل بيروس. 
في الفناء كيف تستطيع أن تستعيد عظامك وهي رميم؟
نوّهنا في سابقا إلى أن اجتهادات المرحوم طه محمود طه، قد لا تكون قلّة معرفة، ولكنّ يوليسيس
نفسها مضللة. زلقٌ مهما كانت قوة القدم. إنها أشبه بخريطة بلا أسماء. أو أنّ الأسماء فيها مطمورة في أعمق أعماق اللاّ وعي. 
تسبب إجهاداً ذهنياً وعاطفيّاً وجسديّاً، إجهاداً يتصاحب عادة مع آلام جسدية فعلاً. طعم الفم يتغيّر وتقلّ الشهية. 
يضيق النَّفَس. يضيق حتماً. 
يبدو أن هذا الإجهاد هو علّة بعض اجتهادات المرحوم طه غير المتّسقة. مثلاً. في الفصل التاسع من يوليسيس تتردّد شخصية اسمها Mr. Best (المستر أو السيّد بيستْ)، إلاّ أن طه عرّبها بـ: المستر جيّد. لماذا تترجم الأسماء؟ وإذا كانت ثمة ضرورة لترجمتها، وما من ضرورة، فكيف نتعرف عليها في قواميس السِيَر؟ لا سيّما وأنّ المستر بيست هذا شخصية حقيقية. اسمه الكامل: ريتشارد ايرونغ بيستْ (1872 – 1959مدير المكتبة الوطنية ومترجم كتاب عن الميثولوجيا الكلتية المكتوب بالفرنسية، وكان أحد مؤسسي مدرسة التعليم الإيرلندية.
بالإضافة، لا شكّ عندي أن المرحوم طه بسبب هذا النوع من الإجهاد أغفل سهوا ترجمةً المقطعيْن التالييْن من الفصل السابع، وهما:
1- صوفيّ يمشي بتعثّر في ميدان المتغطرسة هيلين
إسبارطيّون يحرقون الإرم
إثياكيّون يقسمون أنّ المؤلف مقاتل 
أنت تذكّرني بـ: أنتيسثينس، قال البروفسور، تلميذ غورجياس الصوفي. قيل عنه، إنّه ما من أحدٍ يعرف هل كان أكثر مرارة ضدّ الآخرين أمْ ضدّ نفسه. إنّه وُلِد من أبٍ نبيل وأمٍّ جارية. ألّف كتاباً وفيه أخذ رمز الجمال من "أرغيف هيلين" وأعطاه إلى بنيلوب المسكينة.
مسكينة بنيلوب. بنيلوب ريتشْ
كانتا تتهيئان لعبور شارع أوكون
يشير شارح يوليسيس، في المقطع أعلاه إلى أنّ انتيستينس فيلسوف إغريقي (444 – 370 ق. م.). أكّد أنّه بدون فضيلة لا يمكن أن توجد سعادة، وأنّ الفضيلة وحدها كافية لأن تكون سعادة. في إحدى مقالاته: "هيلين وبنيلوب"، حاول أنْ يبرهن على أن فضيلة بنيلوب جعلتها أكثر جمالاً من هيلين. كان نصف مواطن أثيني، لأنّ أمّه كانت جاريةThracia . 
أمّا Gorgias فهو صوفي إغريقي وبلاغي عُرف بأنه فيلسوف عدمي لثلاث مسائل. (1) ما من وجود لأيّ شيء. (2)إذا كان هناك وجود لأيّ شيء، فلا يمكن أن يُعرف. (3) وإذا كان ثمّة وجود لشيء، ويمكن معرفته، فلا يمكن الاتصال به. لذا فالفلسفة (والحياة) مسائل إقناع وليست مسائل اتصال
2-هلو عامل شبكة التلفونات
عربات الترام الثماني واقفة من جرّاء انقطاع التيار الكهربائي في عدّة أماكن كانت متوجهة أو قادمة من راثمينز، راثفارنهام، بلا كروك، كينغزتاون، ودولكي، وسانتيماونت غرين، ورينغسند، وسانديماونت تاور، دونيبروك بارك، وأبر راثمينز. عربات الأجرة والسيرات وحافلات توزيع البضائع، وسيارات توزيع الرسائل، وعربات خاصة يجرها حصان، ماء معدني فوّار يجري مع سلال قنانٍ مقعقعة، مخشخشة، تحرّكتْ، تجرّها خيول بسرعة.
* * * 
لنعترفْ أنّ هناك الكثير من المصطلحات، والنعوت والألقاب المحلية تفوت حتى على أبناء إيرلندا أنفسهم نتيجة تقادمها، فكيف يعرفها المترجم الأجنبي؟ . من ذلك أنّ المرحوم طه ترجم : Skin –the – goat :بـ: "أبو فروة":
"...حيث قاد أبو فروة العربة...
- أبو فروة ، قال المستر أومادن بيرك"
هذه ترجمة اجتهادية مقبولة لدى القارئ العادي ، ولكنّها لا تلقي ضوءاً على شخصية هذا الرجل، واسمه جيمس فيتزهارس، إذا أردنا تحليل شخصيّته وهذا شيء مهم. كان هذا الرجل قد" سلخ جلد معزاته الأثيرة، ليسدّد الديون المتراكمة عليه جرّاء إدمانه على الخمرة". إنّه :"سالخ جلد معزاته" أو "سالخ معزاته". 
على هذا النمط ترجم المرحوم طه جملة: Look out for squalls بـ: اتّقِ تهوّره"، بدلاً من : "ترقّبوا رياحاً شديدة".
صحيح ، إنّ : Squall، تعني فيما تعني : الشجار، الصراخ، الريح الشديدة. بيد أنّك مع جويس لا يمكنك اختيار إحدى الكلمات اعتباطاً. يرمز جويس بهذه الكلمة إلى شيء أبعد تأريخاً وجغرافية. ففي الأوديسة الجزء العاشر، نعرف أنّ أوديس عاش أشدّ الأهوال في كهف السيكلوب. نجا بأشدّ الاعاجيب غرابة. وبعد مغامرات خطرة، وصل إلى جزيرة يقطنها "إيلوس". كان إيلوس هذا قد أعطى أوذيس قربة من جلد ثور، وقد حبس فيها الرياح المعاكسة لرحلته وعودته إلى الوطن، إلاّ أن البحارة فتحوا القربة أثناء نوم أوذيس، ظنّاً منهم أنها تحتوي على كنوز. أنفجرت الرياح وأبعدته عن وطنه. 
كان جويس يشير إلى تلك الرياح حينما قاده تيار اللاوعي إلى :Look out for squalls.
أدناه مثال آخر، عن الصعوبة البالغة في ترجمة يوليسيس إذْ لا يفصح جويس قطّ عن مصدر تداعياته.
في الجزء السابع، وفي باب معنون: "فال سيء بالنسبة لهم" كان المحررون يتحدّثون عن فنّ الخطابة، بيد أن الخطيب فيتزغبون مات، كما مات موسى ولم يدخل أرض الميعاد. ثمّ يتواصل سرد الراوية، كما ترجمها المرحوم طه:
"ذهب مع الريح. حشود من مدينتي مولاماست وتارا حاضرة الملوك. أميال من أروقة الآذان صاغية"، كترجمة لـ:Miles of ears of porches مما يلفت النظر في هذه الجملة العربية إضافة كلمة : صاغية وهي غير موجودة في الأصل. إنها مضللة، والشيء الآخر: أروقة. هل في الآذان أروقة؟ وطولها أميال؟
يشير جويس هنا، إلى وصف الشبح لهاملت، الطريقة التي قُتِل بها على يد أخيه كلوديوس:
"وصبّ سمّ خشب الأبنوس المقطّر
في صماخ أذني..."
(الفصل الأوّل – المشهد الخامس).
العجب، هو الدقة التي صوّر فيها جويس الفكرة. فحينما ذكر مدينة تارا، أفاد بأنها حاضرة الملوك؟ ولكن كيف جاء هؤلاء الملوك إلى الحكم؟ تذكّر الراوية الملك كلوديوس وكيف اغتصب عرش أخيه بصبّ السمّ في صماخ أخيه. من هنا تظهر أهمية : أميال لأنّ الملوك وقد اغتصبوا العروش بصبّ السم، فلا بدّ أن مسافة صماخات الآذان المسمومة تقاس بالأميال.
أمّا جملة :"ذهب مع الريح"؟ فهي اقتباس من قصيدة لإيرنست دوسن(1867 -1900)، من المقطع الثالث: "لقد نسيت الكثير يا سينارا/ ذهبت مع الريح..."
* * *
من المعميّات الأخرى، ما جاء في الباب المعنون : محزن، وفيه يتهكم جويس من محامين إيرلنديين، يلبسون جمّة الشَّعر المستعار للتدليل على ذكائهم. ثمّ انصب الحديث بعد ذلك على محامٍ بعينه. قال المرحوم طه في ترجمته:
"وهن عزمه. قمار. ديون الشرف. يحصد الزوبعة...وشعرهم المستعار ليظهروا المعيتهم. مخّهم على أكفهم كذلك التمثال في جبانة جلاسنفين..."
في هذين السطرين مزالق غير مأمونة. ما معنى ديون الشرف؟ ما معنى يحصد الزوبعة؟ ما معنى مخهم على أكفّهم؟ ولماذا يشبه مخّهم على أكفّهم التمثال؟ 
ترجم المرحوم طه:Debt of honour ب: ديون الشرف، وربما الأكثر صواباً هنا : الديون غير المستوفاة. أما يحصد الزوبعة فإشارة إلى تهديد يوشع بتدمير إسرائيل بسبب وثنيّتها ولا تقواها: "إنهم يزرعون الريح ويحصدون الزوبعة" ((هوشع:8-7).
وترجم :"Brains on their sleeves بـ: "مخّهم على أكفهم". كيف يكون ذلك؟
يبدو أن جويس هنا نسج هذا التعبير سخرية من تعبير
Up one ‘sleeve 
أيْ مخفي ولكنه جاهز للاستعمال 
على هذا يكون معنى التعبير أن قوة عقولهم غير خافية.
أما التمثال فله حكاية يقول عنها الشارح، إنّ "بلوم" لاحظ تمثالاً في المقبرة يحمل قلباً كرمز على الحبّ والإخلاص."
يتهكّم بعد ذلك جويس من الصحفيين، ويستغرب من لسانهم، فيقول: "غريبة تلك الطريقة التي يناور بها الصحفيون حينما يستروحون فرصة ملائمة. ديكة رياح. ثمّ يقول:
"Hot and cold in the same breath "
ترجمها المرحوم طه: "أنفاس حارة وباردة من فم واحد..."
تصح هذه الترجمة حرفياً وربما أدبياً لدى القارئ لأوّل وهلة، ولكنّها لا تصحّ إن وضعت في سياق الجمل التي قبلها.
الإشارة هنا إلى إلى حكاية إيسلوب الخرافية:" الرجل والساطير" (أحد آلهة الغابات عند الإغريق)، وهي: "أنّ رجلاً ضلّ طريقه في إحدى ليالي الشتاء الباردة، فأنقذه ساطير. كان الرجل ينفخ في يديه ليدفئهما، كما قال جواباً عن استفسار الساطير الذي أخذه معه إلى بيته. قدّم الساطير له صحناً من الثريد الساخن، فراح الرجل ينفخ عليه ليبرده. طرد ساطير هذا الرجل، قائلاً "لا علاقة لي برجل ينفخ حارّاً وبارداً في نفس النفَس"
* * *
ملحوظة: حاولت جهدي أن أجد بعض المبررات لصعوبة ترجمة يوليسيس نفسها. تجنبت المساس بقدرة المرحوم طه أو عبقريته في فهم اللغة الإنكليزية. فإذا بدر مني سهواً ما يوحي بالنيل منه بأية صورة، فذلك تطاول من جانبي لا مبرّر له، فأعتذر.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

أوليفييه نوريك يحصل على جائزة جان جيونو عن روايته "محاربو الشتاء"

مقالات ذات صلة

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر
عام

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

حاوره: علاء المفرجيرواء الجصاني من مواليد العراق عام 1949، -أنهى دراسته في هندسة الري من جامعة بغداد في عام 1970، نشط في مجالات الاعلام والثقافة والفعاليات الجماهيرية داخل، -العراق حتى العام 1978، وفي الخارج...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram