الإطار الذي يشتغل فيه الرسام الكولومبيّ فرناندو بوتيرو، التضخيم المُفْرٍط، طالع غالباً من اليوميّ والثقافة الشعبية التي يقوم الفنان بمساءلتها بسخرية خافتة، عبر مجازات متواصلة، من طبيعة مجاز المبالغة.
لقد مَنح بوتيرو الثقافة الشعبية البصرية دفقا آخر: استعادة اليومي بصرياً بطريقة ناقدةٍ له في الخفاء. صحيح أننا نرى شتى المشاهد اليومية، لكننا نراها وكأنها قد شُوهدت بعدسةِ مُضخّمة، من تلك التي تنصب أحياناً في الحدائق والمتنزهات الأوربية وحتى العربية (أتذكر بأن واحدة منها كانت في مدينة الألعاب في بغداد)، بحيث يستمتع الجمهور، ساخراً مندهشاً، مُقلِّباًً صورته وصور عائلته وصغاره، وكأنه يتعرّف على بعض ملامحه لأول مرة، لأن عملية التضخيم المفرط هذه قد جَلَتْ له فجأة إشكالية ما في ملامحه، بعد أن كانت بداهة مقبولة بالمرآة العادية التي لا تعترف بطبيعة "الإشكالية"، وتجعلها مقبولة على الدوام.
لا ينفع المفهوم الذي نطلق عليه في العربية "التضخيم"، في إدراك مغزى بعض الاشتغالات العميقة في أعمال بوتيرو، إذا لم يُعرّف في سياق التصوير الذي شغل بال الفنان، والتنقيب في الدوافع التي قادت إليه. ليست مفاهيم الطرفة والسخرية والمفارقة كافية وحدها في تلمّس هذه الطراوة المدهشة ونكهة الجدّة فيه. لا أظنّ من جهة أخرى أن "فعْل التضخيم" في لوحات بوتيرو هو محض دفاع عن البذخ كما يقول البعض. وُصف أسلوب بوتيرو بأنه ينحو نحو الضخامة النصبية والمعالجة الزائدة عن الحدّ للتناسبات الطبيعية، بل أنه يقوم على ما أسماه ناقد يكتب باللغة الإسبانية "تناسب بوتيري"، وإنه ينتمي إلى "الواقعية السحرية" المعروفة في أدب أمريكا اللاتينية. في الحالة الأخيرة تُفْرٍغ بعض الكتابات النقدية عن الفنان هذه الواقعية من مغزاها ومضمون الرسائل التي تتضمّنها، وترى عمل بوتيرو فحسب من الوجهة الشكلية، هذه التضخيمية الساحرة، وهذا أمر آخر نحن في ريبة منه.
لنحدّدْ في البدء معني التضخيم، ونعرّفه بصفته مجازاً من مجازات البلاغة، وهو مجاز المبالغة L'hyperbole التي تُوْصَف في العربية بأنها أن يَقُوْم المتكلم بوصفٍ، يَصِلُ في الشدّة والضعف حداً مستبعداً أو مستحيلاً، في العادة والعقل كليها، أو في طرف منهما فحسب. ما يسميه البلاغيون الإغراق هو أن تكون المبالغة للشدّة والضعف ممكنة عادة لا عقلاً. أما الغلو فهو الاستحالة عادة وعقلاً.
في الفرنسية يُفْهَم المجاز على أنه مبالغة وحامل أساسيّ للسخرية والكاريكاتور، لذا يتقدّم بالتوازي مع نبرة التشديد أو مع توسيع المدى (التضخّم، التكثُف). يُقِيْم مجاز المبالغة الفرنسي هذا تحوُّلاً دلالياً (أي تقديم خطاب مبالغ به لمعنى فكرة أو حقيقة) بتكرار عناصر متطابقة (أي في نفس النطاق أو المحمول). وهو يتعارض مع مجاز الإيجاز المعاكس الميّال إلى إقلال الخطاب معتمداً على التلميح ( التعريض، التلطيف: نوع من التورية)، ساعياً إلى التخفيف من وطأة الواقع دون نسيان السخرية.
يعتقد ج. دوران في كتابه الذي ترجمناه تحت عنوان "مجازات البلاغة في الصورة الإشهارية" أن المعاِدل البصريّ للمبالغة هو تضخيم الصورة، ويجد له مثالاً يرتقي لسنة 1962 يمثل حبة بازلاء مكبّرة 12000 مرة. لكن في العربية التصغير المبالغ به (حدَّ الضعف، كما يقول التعريف العربي، نقيض الشدة) يمكن أن يندرج في إطار مجاز المبالغة، وهو ما نجد له نحن أمثلة عدة، ومنها إشهار يرقى لسنة 1912 في فرنسا: امرأة تحمل بين ذراعيها نموذجاً مصغَّراً يمثل سيارتها المفضلة.
وإذنْ فإن مبالغة بوتيرو على المستوى الأيقوني، هي مبالغة الغلو التي تقع في الاستحالة تقريباً، عادة وعقلاً، لكنها حامل أساسي للسخرية والكاريكاتور كما يضيف التعريف الفرنسيّ، ونضيف لتقديم الثقافة الشعبية في بلدان أمريكا اللاتينية.
(يُتبع)