TOP

جريدة المدى > عام > في ذكرى رحيل الصحفي مظهر المفرجي..عاشق بغداد الذي رحل مبكراً

في ذكرى رحيل الصحفي مظهر المفرجي..عاشق بغداد الذي رحل مبكراً

نشر في: 24 يونيو, 2014: 09:01 م

عشر سنوات بالتمام والكمال مرت هذا الأسبوع على رحيل مظهر المفرجي، الصحفي اليساري العراقي وعاشق بغداد وحامل أسرارها الحميمة والخفية والجميلة في آن كأنها بين أضلاعه. ولم يكن المفرجي صحفيا بالمعنى المعتاد، او إعلاميا رتيبا. فهذا قيد كان يفلت منه ببراعة م

عشر سنوات بالتمام والكمال مرت هذا الأسبوع على رحيل مظهر المفرجي، الصحفي اليساري العراقي وعاشق بغداد وحامل أسرارها الحميمة والخفية والجميلة في آن كأنها بين أضلاعه. ولم يكن المفرجي صحفيا بالمعنى المعتاد، او إعلاميا رتيبا. فهذا قيد كان يفلت منه ببراعة مازحة برغم ان الصحافة كانت مهنته بل حرفته وفي اكثر من مجال، هو الذي عمل في الصحافة البغدادية منذ صباه مطلع السبعينات حتى اضطراره الى مغادرة بلاده هربا من الفاشية البعثية عام 1978، ليستقر أولا في بيروت، حيث عمل في الصحافة الفلسطينية، ومنها الى قبرص اثر الاحتلال الاسرائيلي للبنان، مواصلا عمله الإعلامي لأكثر من عقد، قبل ان ينتقل إلى العاصمة البريطانية لندن اثر حرب الكويت عام 1991، ليستقر فيها حتى عودته إلى بغداد حيث وافاه الأجل ووري الثرى.
بل كان انساناً زاهداً في ذات الوقت. وهذا ما كان يبهجه. والكفاف كان متماهيا معه الى درجة بدا عبرها نوعاً من حالة وجود اختارها واعيا ونهائيا كما لو انها غدت فطرية لديه. وهكذا عرفته. ولعل هذا يفسر استعداده بل إصراره المذهل على الرحيل عندما داهم جسده نداء الأجل بعد معاناة طويلة وعصامية الصبر مع الألم، إصرار لا يضاهيه سوى سخاء روح بدت مفتوحة دائما على مصراعيها في استقبال اي ضيف تعبيرا عن بيت عز عريق.
ولقد كان وفاؤه لأصدقائه القريبين والبعيدين يغمرني احيانا بحبور ودهشة لا سيما عندما، في سنوات الحصار على العراق خاصة، راح يجمع المال والهبات الشحيحة أصلا من هنا وهناك ليرسلها، هو الخاوي الجيوب، لأصدقاء ورفاق في بغداد او البصرة او غيرهما توجس العوز لديهم دون إشارة من احد ودون ادنى مزايدة او ضجيج. ففي دواخله كنت أتلمس أحيانا حركة لا تهدأ لنبض وفاء حميم لديه حيال رموز وأكاد أقول جروح تجربته العميقة كمناضل إنساني وعمالي بالمعنى الكامل للكلمة، واقصد تجربة ذلك الجيل، جيلنا، الذي خسر المعركة تلو الاخرى لعدم توفر الشروط، إلا انه لم يحبط او يستسلم ابدا بسبب وربما بفضل ثورية رومانتيكية مطعمة ببعض فوضوية جميلة لا شك، إلا أنها ممتزجة الى حد التماهي مع حب رومانتيكي صاف هو الآخر للعراق ولبغداد خاصة.
ولعل هذا هو سر تلك القدرة العجيبة على إخفاء الداء والألم حتى عندما غدا الجسد غير قادر على كتمان سرهما. فطوال كل تلك السنوات الصعبة التي عرفته خلالها، لم اجد مظهر المفرجي حزينا ابدا بل كنا، كلما التقينا معه، لا نجد وقتا كافيا لاستكمال الجدل عن اي شيء من مسائل الساعة العراقية ناهيك عن قضايا السينما والمسرح والفضائيات والصحافة وحتى الموسيقى والأغنية العراقية التي كان مظهر المفرجي مراقبا نقديا مثابرا لها وعارفا عن قرب بمستجداتها.
كان مظهر عبد عباس المفرجي يحمل تبعاته طواعية على الكتفين، كما لو ان أمانة جسيمة في رقبته والده المناضل اليساري عبد عباس المفرجي، الذي كتب احدى انصع صفحات تاريخ العراق المعاصر في الإقدام والتضحية. وهل يمكن نسيان بطل معركة قطار الموت عام 1963؟ السائق الذي خاطر بحياته كي ينقذ من موت محقق مئات السجناء العراقيين وبينهم عشرات المثقفين والنقابيين والناشطين السياسيين. والحال ان عبد عباس المفرجي كان ايضا اول سائق قطار عراقي، وأحد مؤسسي نقابة السكك العراقية في 1936 ، والسائق العراقي الذي تكفل بافتتاح الجسر الحديدي القديم في بغداد، بقيادته القطار بدلا من سائق هندي تخاذل قبيل تنفيذ المهمة، والنقابي الذي اقدم في 1948 على نقل عدد من قادة المعارضة بقطار الى تركيا سرا لإبعادهم عن قبضة الأجهزة القمعية، والذي تعرض في 1987 الى أزمة قلبية قوية توفي على اثرها نتيجة لشدة الضغوط وشتى المضايقات والتهديدات بما فيها السجن والتعذيب لرفضه طلب الأجهزة القمعية البعثية ان يساعدها من اجل القاء القبض على نجله الهارب مظهر ذاته، الذي كان يبكي في الطرف الآخر من العالم عذابات والده فيما راح يمزقه الألم الصامت لفقده بعيدا عنه بعد لندن عن بغداد. بغداد هي من يبكي اليوم ابنها الوفي مظهر المفرجي، حامل ذاكرة عراق خاص بأكمله، العراق البغدادي الجميل، ابنها الذي صار يزداد غماً وهماً كلما التقاها وكان آخر لقاء عندما زارها بعد ان تخلصت من جلادها البعثي في 2003 وبعد غياب قاس امتد لربع قرن ليجد مفاتنها العمرانية والاجتماعية والثقافية ركاما على ركام بفعل معاول هدم لا تحصى كانت حروب البعثيين البليدة والحصار في الصدارة منها لا ريب إلا أن الاحتلال الامريكي والمافيات الطائفية والعشائرية لم تكن ارحم بل العكس احيانا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. ثابت سلوم

    مظهر المفرجي ايها الميّت الحي ، بالمصادفة وجدت أحدا يرثيك في زمن النذالة والخسة والدناءة ... زمن الأكاديميين الذين لا يمتلكون ، للأسف ، إلا كفاءة بيع أنفسهم لمن يدفع أكثر .. مظهر عبد عباس الذي أتذكره عندما يشتدّعليّ خناق الذاكرة ولا يغادرني طمي دجلة ولا ن

  2. ثابت سلوم

    مظهر المفرجي ايها الميّت الحي ، بالمصادفة وجدت أحدا يرثيك في زمن النذالة والخسة والدناءة ... زمن الأكاديميين الذين لا يمتلكون ، للأسف ، إلا كفاءة بيع أنفسهم لمن يدفع أكثر .. مظهر عبد عباس الذي أتذكره عندما يشتدّعليّ خناق الذاكرة ولا يغادرني طمي دجلة ولا ن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

أوليفييه نوريك يحصل على جائزة جان جيونو عن روايته "محاربو الشتاء"

مقالات ذات صلة

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر
عام

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

حاوره: علاء المفرجيرواء الجصاني من مواليد العراق عام 1949، -أنهى دراسته في هندسة الري من جامعة بغداد في عام 1970، نشط في مجالات الاعلام والثقافة والفعاليات الجماهيرية داخل، -العراق حتى العام 1978، وفي الخارج...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram