القسم 9 من بزوغ الصوت الأنثوي
لم يكن احد ليصدق وجود امرأة عراقية رحالة في القرن التاسع عشر كتبت مذكراتها باللغة الانكليزية ،لكن الكاتبة امل بورتر عثرت على مذكراتها في المكتبة البريطانية وترجمتها فتعرفنا إلى "ماري تيريز اسمر" التي قامت برحلات عدة وأجادت اللغات الانكليزية والايطالية والفرنسية والسريانية والفارسية والعربية والهندوستانية وكتبت المسرحيات التعليمية و المذكرات حتى عُـدّ كتاب مذكراتها وثيقة نادرة كُتبتها ببصيرة امرأة مثقفة عن وضع المرأة والمجتمع الحضري والريفي والبدوي تحت الهيمنة العثمانية ، وعملت ماري تيريز على تنوير النساء وتعليمهن في زمن التمييز الفادح.
اعتادت ماري تيريز وهي طفلة صحبة الكبار لنضجها العقلي وتطلعها نحو مصير مختلف عن مصائر نساء عصرها وكانت تنصت باهتمام الى قصص جدها المعمر عن حصار "نادر شاه " لمدينة الموصل سنة 1743 ذلك الحصار الذي دام شهورا طويلة وعانى فيه الموصليون عذابات الجوع والأوبئة والسبي .
ظهر كتاب ( مذكرات أميرة بابلية ) باللغة الانكليزية في 1844ووثقت فيه تاريخ ولادتها بأحداث تاريخية متزامنة معها فعندما اجتاح وباء الطاعون بغداد سنة 1804قرر والدها الابتعاد بعائلته الى الريف الشمالي قرب خرائب نينوى حيث كان يملك منزلا كبيرا هناك وتذكر ان البيت : "كان يسمى قصر العزة وفي هذه الفترة ولدتُ في خيمة منصوبة في البرية ليس بعيدا عن دار والدي وربما كانت الخيمة مكانا لنواح والدتي لفقدانها عددا من أفراد عائلتها خلال وباء الطاعون ولخسارتها أخا كان عزيزا عليها وافاه الأجل اثر لسعة ثعبان سام وهو في رحلة صيد"
تروي ماري تيريز أسمر قصة حياتها المثيرة ومغامراتها العجيبة في تجربة الترحال المضادة من الشرق الى الغرب -على العكس مما اعتاد عليه رحالة القرون السابقة الذين كانوا يتجهون من الغرب إلى شرق الأسرار لدوافع متباينة منها الدوافع التبشيرية أو التجارية أو الاستشراقية او ذات الأبعاد المعرفية والسياسية أو لاستكشاف مواطن الثروة في الشرق الغني بكنوزه.
نشأت ماري تيريز أسمر الكلدانية ما بين بغداد وسهل نينوى وتناوبت على رسم قدرها الانثوي المنكود كوارث حلت بأسرتها وأحداث جسيمة واجهتها مع الغربة والبشر فكانت شاهدة على عصر مترنح بين رياح التغيير والثورات التي هبت على أوروبا وزلزلتها وبين هيمنة العثمانيين الشوفينية وحربهم الفاتكة على المختلفين وسلبهم للحريات والثروات والأرواح.
تقول ماري أن بيت والدها كان( ملاذا لكل إنسان بائس ومن أية طائفة سواء أكان مسيحيا أو يهوديا أو مسلما فقد ابتنى بيتا خصيصا لاستقبال الغرباء وكان يذهب بحثا عنهم وعندما يجدهم كان يدعوهم للبيت ويغسل أقدامهم بيده ويقوم بضيافتهم بنفسه ) مطبقا تعليمات السيد المسيح في تقديم العون للبؤساء والغرباء وهي شهادة بليغة عن سمة التعايش الانساني في عصر كان الظلم سمته والتعصب شرعته والتمييز قانونه الاجتماعي.
وتسرد ماري تيريز اسمر تجاربها المدهشة في رحلاتها بأسلوب مفعم بالصدق و دقة الوصف لما يحيطها من بشر وعادات وتقاليد وخداع و أكاذيب ودسائس لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات الشرقية والغربية، وتنحاز للقيم الأخلاقية والوفاء والكرم والتسامح وحماية الصديق فعندما استجارت بإحدى القبائل العراقية بعد ان استولى العثمانيون على أملاك أسرتها حماها شيخ القبيلة واحتفت بها أسرته . و كانت ماري تحكم على الأوضاع بمثالية مفرطة جعلتها تصطدم بأحداث مروعة شكلت مصيرها وكشفت لها خداع النفوس وزيفها مقابل كرم روحها ومثالنا البارونة الفرنسية التي خدعت رحالتنا الشجاعة وسرقت أموالها.
يتبع