في أكتوبر من 1990، حضرتُ أمسية كبيرة للشاعر البولندي، الذي يقيم في أمريكا، تشيسلاف ميووش. وكان في الثمانين من عمره آنذاك. قرأ عدداً من قصائده في البولندية، على أثر قراءتها بالانكليزية من قبل شخص آخر. وفي الحوار معه بعد القراءة تحدث بالانكليزية.وكان ما يميز إنكليزيته، مع وضوحها ودقتها في إيصال المعنى، أنها مثقلة باللكنة البولندية، مع أنه قضى ثلثي حياته في المنفى الأمريكي، أستاذاً محاضراً. في صحف اليوم الثاني كانت العروض النقدية للأمسية احتفائية، لا بحضوره فقط، بل بلكنته البولندية المحببة.
الزمن الطويل الذي أقام فيه الأفارقةُ والكاريبيون في انكلترا، منح لكنتَهم الإيقاعيةً المتميزة شرعيتَها، حتى خرجت علينا تياراتٌ شعرية من هذه اللهجة مستعصيةٌ إلا على من يحسنها. وقصيدتُها جزء من الإرث الشعري الانكليزي الحديث، تخرج على الناس في مختارات، ودواوين، وأماس. والقارئ الانكليزي يحتفي بهذا التنوع الذي يعتبره غنى. ولعلنا نفعل الشيء ذاته، بغفلة عن سيف حرمة اللغة، مع عربية الكردي في العراق، وعربية أبنائنا الذين يولدون ويتربون في بلاد الانكليز.
الشاعر الإنكليزي الذي يُسهم معي في ترجمة قصائدي دائم الحماس في إبقاء بعض المفردات العربية على حالها دون ترجمة. يجد صوتها جميلاً، ومعناها يسير الوصول. وهو يفعل ذلك لا عن عناد لا عقلاني، بل عن دراية بأن لغته الانكليزية لم تصبح بهذا الغنى، وبهذه العالمية لولا طواعيتها العجيبة هذه.
وصلني الدرسُ، فهذه اللغة التي يعتقدها الناس سهلة، صارت بالغة السعة وبالغة التعقيد بفعل هذا الاعتقاد ذاته. لأن شعوب الأرض تتعامل معها كلغتها الثانية، وتتكرم عليها ما شاء الله من أنفاسها الخاصة، والانكليزية تزداد طواعية، حتى سميت "الوليد غير الشرعي" bastard language. وهي تسمية بالغة الشيوع بين الانكليز، ولقد أصدر جاك ماكورتر في عام 2009كتابه "لغتنا النغْل الرائعة". وهو يؤكد على صحية الظاهرة، ويعيد هذه اللاشرعية إلى مراحل مبكرة من جذور قبائل السيلتِك الاسكتلندية والفايكنغ. الفرنسية بالمقارنة، لم تتسع لشعوب أخرى خارج حدود فرنسا، إلا قسراً بفعل الهيمنة الاستعمارية. لأن الفرنسي يتعامل معها بلمسة القداسة، المألوفة لدينا في العربية.
في سنوات إقامتي في لندن، وحين كنت أتحدث بلغتي الانكليزية بالغة التواضع مع أصدقاء من الوسط الثقافي الانكليزي، لم يحدث أنْ أنكر أحدٌ عليَّ خطأً أو سوءَ استخدام، مع معرفتي بكثرة الأخطاء وسوء الاستخدام.كانوا، حين أتحرّج، يقولون بأن لغتي لا غبار عليها،وبأنني أوصلت المعنى بوضوح، وهذا رائع.
المثقف العربيالتقليدي يتعامل مع العربية بقداسة، ولذلك تأبى اللغةُ الخروجَ، ومعها حق، من معتقل "لسان العرب". والمثقف العصري يفعل الشيء ذاته ولكن بصورة مستعارة. فهو حين يتعلم الانكليزية يتعامل مع حرمتها، دون وعي منه ربما، تحت ظل "لسان العرب". إنه ضرب من التعويض. فيصبح الخطأ في الانكليزية، في الترجمة، والكتابة، أو الكلام بمثابة جريمة، ويجب أن يُعاقب المخطيء بالسخرية والتنكيل والاستعداء.
الظاهرة أجدها حيث أذهب، ولا أعرف إذا ما كان ذهابي لا يتجاوز حلقة العراقيين. فالعارف بالانكليزية مرصود، ويجب أن يحذر من شباك الصيد: إن أخطأ، أو أمال حرفاً، أو عجز عن استبدال الراء بشبحه، أو غفل عن تلقائيته..الخ. حتى صار أحدهم، إذا ما جاء حرف الراء، يُعطّل لسانَه بصورة مبالغة حتى يُخلّف غيابُ الراء هوّةً أثقلَ وطأةً من حضوره. هذا إذا ماكان في حضور الراء أيّ ثقل يُذكر، خاصة من عضلة لسان عربية.
هذه ليست دعوة لإهمال الانكليزية باسم طواعيتها. بل هي دعوة للاحتراس من هيمنة "القداسة" للغة في أعماقنا، وإلباسها لبوس الحرص على اللغة الأخرى. لأن الحرص، ببساطة، لا يصح أن يتجاوز حرص الإنكليز أنفسهم. ولا يستدعي سخرية ولا تنكيلاً ولا استعداءً أو تجريماً. لا يستدعي هذه الأصناف من العقاب إلا هتكُ حرمة المقدّس.
الانكليزية، الوليد غير الشرعي
[post-views]
نشر في: 6 يوليو, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 2
طالب عبد العزيز
في الصميم، انتباهة شاعر كبير عارف اسمه فوزي كريم، نعم، الاصدقاء الذين يتكلمون العربية يتسقطون اخطاء بعضهم، وهم دون المعنى والمفهوم، قداسة العربية تبعد متعلميها عن الاستنرار في التعلم،أتذكر انك نصحتني بتعلم الانجليزية حتى مع الأخطاء في اللفظ .وقد وجدت ذلك
عبد الحسين صنكور
العزيز الشاعر فوزي كريم : تحية وسلام . ما ذهبتَ اليه ظاهرة معروفة ومرصودة علمياً في اللغة الانكليزية منذ فترات طويلة ،ويسميها بعض المشتغلين في علم اللغة العام ب (The new sense ) . اذ يُضيف المتكلم الأجنبي باللغة الأنكليزية ( أحساسه) الخاص النابع من بيئته