TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > فرناندو بوتيرو.. العودة إلى أبو غريب

فرناندو بوتيرو.. العودة إلى أبو غريب

نشر في: 11 يوليو, 2014: 09:01 م

(3)
إذا افترضَ قانونُ الجمال اليونانيّ في فني الرسم والنحت نظاماً للتمثيل يسمح بالحصول على الأناقة واللطف الهارمونيّ للأشكال، عبر نِسَب مثالية، ذهبية، فإن تصوير فرناندو بوتيرو يبدو على مسافة كبيرة من ذلك. هذا الـلطف الكلاسيكيّ يتنافر مع أعمال بوتيرو التي ترفضه بوعي وقصدية. لا يبدو قانون الجمال المتطابق مع (اليوميّ) لبوتيرو بعلاقة مع القانون الإغريقيّ الشهير.
يُقِيْم الرسّام الكولومبي نسقاً جمالياً للعري وفق نِسَبٍ خاصة به، معيداً الاعتبار في نهاية المطاف (حتى من دون أن يقصد) لملايين النساء والرجال الذين لا يمتلكون مثالية النموذج اليونانيّ وموديلات عصر النهضة. لذا يكثر استشهاد بوتيرو بالأعمال السابقة التي تقدِّم الجميلات العاريات، وفق أنماط "جماله" العاري المكتنِز بإفراط.
إنه يعاود تمثيل عاريات عصر النهضة التي رسمها بليني وتيسيان بذريعة فنيوس، وجُلّها تحمل إشارات أيروتيكية بل جنسية خفية قوية. يعاود بوتيرو الرجوع إلى لوحات فيلاسكيس كثيراً أيضاً، خاصة لوحته الشهيرة "فينوس أمام المرآة": فينوس مفرطة النرجسية ترى إلى انعكاس جمالها الحسيّ وتستعذبه. ولعله يعود أيضاً إلى عاريات آنغر في الحمام التركيّ ولوحته "المحظية الأولى". أحيانا يستلهم المستحمّات اللواتي رسمهنّ بروح انطباعيّ رينوار. امتلاء بعض نساء رينوار ناجم عن نقله الحَرْفي الواقعيّ لنساء عاديّات من ذلك الزمن، وليس عن أيّ تصوُّر ذاتيّ يرى جماليات مغايرة قابعة في الموديلات الممتلئة.
عودة بوتيرو واستشهاداته، المُعلنة والمستترة، تنطفئ فيها شحنات الجسد المثاليّ النهضويّ وما بعد النهضويّ وواقعية القرن التاسع عشر الجديدة المتجلية بمثال آنغر، وتكاد نكهة شبق نسوة تيسيان الماكرة والعادة السرية التي تمارسها إحداهنَّ بحركة عفوية ظاهرياً، تختفي لصالح أسى بالغ لدى عاريات بوتيرو وحزن كبير واندماج في ابتذال الحياة اليوميّة، وتكرارها وسماجة فضائهن الحميميّ فيها، وفي النهاية لصالح عزلة وجودية تماثل عزلة عاريات مدن الغرب الأمريكي اللواتي رسمهن أدوارد هوبير، واللواتي يعانين من الضياع والغربة في المدن الصناعية الحديثة التي تقود إلى القطيعة. يحضر بعض ذلك عند بوتيرو في لعبة المرأة- المرآة نفسها متعدّدة المعاني التي حضرت لدى تيسيان وفيلاسكيس والكثير غيرهما.
فجأة اهتمّ بوتيرو بموضوع مختلف عن المسار العام لانشغالاته. فقد رسم مجموعة لوحات عن (أبو غريب) تضمّ سلسلة من 100 عمل (خمسون لوحة وعدة أعمال على الورق) على مدار عام أو نحو ذلك. وكلها تقدّم مشاهد أقرب إلى فعل قياميّ خانق كأنها خارجة من جحيم دانتي، بطريقة حديثة؛ حيث يحصل الخطّاؤون على وجبتهم الأخيرة من الصالحين، لكأننا نرى فيها شياطين الجحيم بصفتهم أدوات للصلاح، بينما نرى من يقع تعذيبهم وحدهم أو في مجموعات صغيرة. إن بساطة السطح التصويري تقرّب أعمال أبو غريب من أعمال الدوانييه روسو البدائية حتى تبدو وكأنها نسخة حديثة منها. أما الشخوص فيها فأنها من الخفّة والهوائية بمكان، كما لو أنها قد انتفختْ بأقدام غير قادرة على الثبات على الأرض، وقد قيل عنها بأنها تمتلك خصائص الزوايا الحادة التي تُوحي بالنحت على الخشب، بعد أن كانت شخوصه تمتاز عموماً بالاستدارة.
جحيم دانتي الذي تمتاز به لوحات بوتيرو عن أبو غريب يُستعاد اليوم في العراق، بصيغة أشدّ فتكاً وقياميّة من أيام الاحتلال الأمريكيّ للعراق. يقع الفارق في أن قيامية أيام سجن أبو غريب حدثتْ على يد المحتل، وهي تقوم اليوم على يد أبناء البلد نفسه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

 علي حسين اعترف بأنني كنت مترداً بتقديم الكاتب والروائي زهير الجزائري في الندوة التي خصصها له معرض العراق الدولي للكتاب ، وجدت صعوبة في تقديم كاتب تشعبت اهتماماته وهمومه ، تَّنقل من الصحافة...
علي حسين

قناديل: في انتظار كلمة أو إثنتيّن.. لا أكثر

 لطفية الدليمي ليلة الجمعة وليلة السبت على الأحد من الأسبوع الماضي عانيتُ واحدة من أسوأ ليالي حياتي. عانيت من سعالٍ جافٍ يأبى ان يتوقف لاصابتي بفايروس متحور . كنتُ مكتئبة وأشعرُ أنّ روحي...
لطفية الدليمي

قناطر: بعين العقل لا بأصبع الزناد

طالب عبد العزيز منذ عقدين ونصف والعراق لا يمتلك مقومات الدولة بمعناها الحقيقي، هو رموز دينية؛ بعضها مسلح، وتشكيلات حزبية بلا ايدولوجيات، ومقاولات سياسية، وحُزم قبلية، وجماعات عسكرية تنتصر للظالم، وشركات استحواذ تتسلط ......
طالب عبد العزيز

سوريا المتعددة: تجارب الأقليات من روج آفا إلى الجولاني

سعد سلوم في المقال السابق، رسمت صورة «مثلث المشرق» مسلطا الضوء على هشاشة الدولة السورية وضرورة إدارة التنوع، ويبدو أن ملف الأقليات في سوريا يظل الأكثر حساسية وتعقيدا. فبينما يمثل لبنان نموذجا مؤسسيا للطائفية...
سعد سلّوم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram