مرت امس الذكرى السادسة والتسعين لميلاد نيلسون مانديلا.. الذي لم يعرف العالم سياسيا مثله ، ليس لأنه سُجِن اكثر من ربع قرن ،. بل لأنه كان صاحب الشخصية الساحرة والمناضل المتسامح داخل السجن وخارجه، الرئيس الذي رفض إعادة إنتاج الظلم ، والسجين الذي قال لسجانيه: "عندما اخرج من هذا المكان سامد يدي لكم لنبني معا مستقبلاً جديداً لهذه البلاد".
في حكاية مانديلا التي كتبت عنها مئات الكتب وآلاف المقالات ، ما الذي يمكن لكاتب مثلي ان يضيف، بعد ان تحولت هذه الحكاية الى مرايا تعكس لنا صورة عفوية للتحولات الكبرى التي تحدث من حولنا.. بالأمس كانت صورة الزعيم الإفريقي الراحل نيلسون مانديلا وهو يبتسم معلقة في كل شوارع جنوب افريقيا، وعلى قمصان وثياب البيض قبل السود ، ، فالكل كان يدرك جيدا ان وجود الساحر الأسمر بينهم، كان ضمانة لكل السكان بكل ألوانهم وأطيافهم وقومياتهم ودياناتهم، الآلاف طافوا الشوارع يحتفلون وكأن الزعيم الافريقي ينظر اليهم ويلقي عليهم دروساً في كيفية تجنب حروب الثأر والضغينة.
سحرَ مانديلا العالم بتواضعه، وبعفوه الدائم وبابتسامته السمحة التي دفعت ملكة بريطانيا ان تخالف البروتوكول فتقرر الوقوف في باب القصر لاستقبال الرجل الذي قرر ذات يوم ، وفي هدوء ان ينهي سلطة المستعمر الأبيض على بلاده، وقبل ان يسحر مانديلا رؤساء وملوك العالم كان قد سحر سجانيه البيض الذين ظلوا خلال سنوات سجنه الطويلة يهربون له القهوة والشاي والطعام الخاص بهم.
ظل مانديلا يؤمن بان السير نحو المستقبل اهم من لعبة اعادة الماضي وحكاياته . ولهذا عارض وبشدة مطالب شعبه من السود بالتفرغ للانتقام فيكتب في مذكرته: "كنت أعلم أن حاجة الظالم إلى الحرية، أمس من حاجة المظلوم، فالذى يسلب إنسانا حريته، يصير هو نفسه أسيرا للكراهية والحقد "
قبل وفاته بسنوات أجرت معه مجلة التايم حديثا عن أهم درس تعلمه في السجن فأجاب بجمل قصيرة: " إن الشجاعة لا تعني انعدام الخوف … إنما تعني تشجيع الآخرين لتجاوز الخوف .. احرص على وجود أنصارك بقربك، ومنافسيك أقرب إليك " ، لم يستبعد أو يسحق منافسيه بل اصر على ان يجعلهم شركاتء. أما أهم دروسه فهو أنه : " لا يوجد فى السياسة إما- أو.. فالحياة أعقد من أن تأخذ حلا واحدا، فلا شيء اسمه الحل الوحيد، بل خليط من الحلول تصنع معا حلا صحيحاً ولهذا فالتراجع وقت الخطأ من صفات القائد".
ينام مانديلا في قبره مطمئنا لأنه ترك بلاده في تصالح مع المستقبل. لم يطلق النار على المتظاهرين. لم يشتم معارضيه او يخونهم، لم يطلب من الناس ان تهتف بحياته، لم يوزع ثروات بلاده بين مقربيه.. لم يتستر على فاسد.. ولم يضطهد أصحاب المختلفين معه.
لعل التجربة السياسية لزعيم جنوب إفريقيا نيلسون مانديلا تستحق من كل الساسة في العالم وأولهم حديثو التجربة في العراق أن يطالعوها، فالرجل الذي أمضى نصف عمره في زنزانة انفرادية ، توقع المقربون منه أن خروجه من السجن يعني أن لحظة الثأر قد حانت، لكنه لم يحقق لهم مبتغاهم ودعا الجميع إلى نسيان الماضي مؤكدا أن “الإنسان الحق هو ذلك الذي لا يكرر خطأ الظلم الذي ناضل كي يرفعه”.
من منا سيقرأ سيرة مانديلا جيدا ليتعلم أن السياسة هي فن المحافظة على الشعوب، لا فن التلاعب بأقدار الناس، وان الحكم لا يعني أن تقول للآخرين إننا حصلنا عليه –الكرسي– ولن نتخلى عنه إلى أبد الآبدين.
مانديلا وعصر حروب الكراسي
[post-views]
نشر في: 18 يوليو, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 2
احمد سليمان
ارجوا من الاستاذ علي حسين ان يمتثل بمانديلا ويطبق مبادئه في مقالاته في المستقبل بغض النظر عما كتبه سابقا.
ازاد شوني
والله كلما اقراء كتاباتك اشتاق اكثر للعمود االثامن . احسنت ارجو من الله ان يكثر كتاب اصلاء من امثالك