القسم 11 من بزوغ الصوت الأنثوي
"أنحدر من عائلة من الشرق تعود أصولها إلى البراهما الذين اعتنقوا المسيحية من زمن بعيد ،أجدادي ولقرون مضت وحسب التقاليد العائلية رحلوا عن ترافنكور الى بلاد فارس واستقروا أخيرا في بغداد ، جدي الأمير عبد الله كان رجلا واسع الثراء " بهذه العبارات تفتتح ماري تيريز كتابها "مذكرات أميرة بابلية" ، وتتحدث عن تصنع المجتمع الغربي مقارنة بفضيلة الكرم والصداقة في المجتمع الشرقي البدائي وتصف لندن التي أمضت فيها ثلاث سنوات بأنها "بابل الجبارة الحديثة وخلال هذه السنوات كانت عزلتي مثل عزلة طائر وحيد في الصحراء وسط الملايين أنا الوحيدة الصامتة "
بقوة روحها وعزمها على تخطي المحن واصلت ماري تيريز تحدياتها في الغربة التي اختارتها بديلا عن ضياع مكانتها وثروتها وفقدان أسرتها وعاشت من تدريس اللغة العربية أو ترجمة بعض المخطوطات ، غير أن الأبواب أوصدت بوجهها وخذلها الأصدقاء الذين ابتزوها وسرقوا أموالها في باريس بينما أثنت على نبل اللندنيين وكرمهم ومساعدتهم لها واعترفت بان" صبرها وجلدها كانا أقصى درجات الفضيلة في أوقات الألم والرزايا" . امرأة غريبة تتعرف الى شخصيات من الطبقات العليا في المجتمعين الفرنسي والبريطاني وتذكر أن رئيس الوزراء الفرنسي حينها كان من أفضل أصدقائها وهو من نصحها "بالذهاب إلى انكلترا التي لديها ممتلكات واسعة في الشرق إذ توقع انني سأبلي بلاء حسنا في جهدي المتواضع لتدريس لغتي الأم" ، وان "إيرل مونستير عرض علي المساعدة في انكلترا ووعدني أنه سيقدمني الى بلاط الملكة فكتوريا وسيبذل جهوده ليحصل لي على تقاعد من الحكومة العثمانية لتعويض الخسائر التي أصابتني جراء الحملة التي قامت بها على سوريا."
وتروي عن رحلاتها المتواصلة بين لندن وباريس ومعظمها صحبة رجال من الطبقات العليا الأوروبية يساعدونها على تخطي محنتها وخسائرها، منهم عسكريون ونبلاء ودبلوماسيون ومثقفون.
امرأة على هذا القدر من الثقافة والعلاقات العامة والمغامرة والبسالة ، ألا تخفي وراء قصتها أسرارا وشجونا لم تشأ كشفها وهي التي عملت مرافقة لأميرة شهابية في لبنان؟ وعاشت لدى قبائل بدوية في العراق ؟ وأمضت فترات من العزلة والاعتكاف في أديرة معروفة شمال العراق أمضتها مع الراهبات والمعتكفين في الصوامع ثم تهجر الأديرة لتسافر في البواخر الى أوروبا.
تشير ماري تيريز اسمر الى الاضطهاد الديني والطائفي من قبل السلطة العثمانية وكأنها تروي لنا أحداث المستقبل من واقع تاريخي ، هي الجريئة الغريبة عن عصرها والتي ادعت أنها أميرة بابلية وقابلت الملوك والأمراء والنبلاء قبل أن يستطيع أي رجل من بلدها فعل ذلك و حدثتنا عن تقاليد الزواج البدوية وعادات أهل المدن وطرز ملابسهم ووضع النساء في حريم الولاة والحكام الأتراك وجهلهن ومنعهن من التعلم وتقارن ذلك بوضع المرأة الأوروبية ولا تنسى وصف الطبيعة وطرز العمارة والعادات واختلافها في سوريا ولبنان وفلسطين وايطاليا وفرنسا وبريطانيا وتتحدث عن تنوع اهتماماتها الثقافية بين التصوف والأدب العربي والتاريخ واللغات والمسرح والترجمة والموسيقى حيث تعمقت معارفها خلال التجارب القاسية في رحلاتها واقتحامها لعوالم كانت تجهلها وهي التي طالما آمنت بسمو الطبيعة البشرية على نحو مثالي ، تقول "يا لحسرتي إن هذه التجارب قد رفعت عن عيني الحجاب وكشفت لي صورة العالم الحقيقية بحيله ونفاقه" وتعرضت من قبل الأوروبيين للابتزاز والخداع والسرقة ورغم احتفاء النبلاء والساسة والسفراء بها ، بقي سوء الطالع يلازمها ما ملأها بالمرارة والكآبة خلال رحلة حياتها العجيبة حتى وفاتها سنة 1854 في لندن.