بصحبة الزملاء في المدى، وطيف من السيدات والسادة، زرنا قبل أيام مخيم "الخازر" على اطراف الموصل، الذي يؤوي آلاف النازحين، من مختلف الأصناف والأشكال. وقد دخلنا ورؤوسنا منكسة، نشعر بالخجل من بساطة المعونة التي حملناها معنا. ولأننا كنا نرى فكرة العراق كبلاد وحضارة، تقيم في هذا العراء الموحش، وتسجل عجزنا عن مد يد العون لمعنى وجودنا او بني جلدتنا.
لم تكن مجرد زيارة لمخيم، تلك التي دفعت بعضنا الى ان يدخل مطأطأ الرأس جاهشاً بالبكاء، وانما ظلت بمثابة مواجهة مع معنى الحروب التي نختارها نحن، او تلك التي تختارنا هي.
مخيم النازحين الذي نزوره، ثم نشعر بأنه كابوس قديم آخر، يعود لزيارتنا بين الحين والحين. وجوهنا القادمة من النجف والبصرة وبغداد، تواجه نازحين من تلعفر والموصل والحمدانية وربيعة وسنجار، وأماكن عديدة اخرى. الصديقات هرعن الى أطفال المخيم، يحاولن تنظيم فقرة ترفيه او رسم في الهواء الطلق، وأجهشن أثناء ذلك بالبكاء ايضا. الآباء والأمهات يقفون بصمت ويأس متفرجين على أطفالهم، الذين لا يريدون استيعاب ما جرى، ويحسبون هذا الجلاء والعراء مجرد سفرة صيفية طويلة. هل من شيء في هذا المخيم لا يذكرني بطفولتي وطفولة آلاف من جيلي دفعوا فاتورة الحرب قبل ان يدخلوا المدرسة، من شط العرب حيث ولدت، حتى اخر نقطة على الشريط الحدودي، عند جبال حاج عمران؟
الرجل النازح المنهك الذي يصافحني، يقول انه ممتن، لأنني من وجهة نظره، كنت اظهر على الشاشات وافعل ما بوسعي للدعوة الى السلام، مع معلقين وكتاب وناشطين آخرين. أما أنا فأظل أطأطئ رأسي، لان هذا الرجل الذي لم يجد الماء لحلاقة ذقنه، ولم يمنحوه خيمة بعد، هو صورة اخرى بالغة القساوة لعجزنا الإداري والسياسي، لا حياله فقط، بل حيال ملايين المعوزين، والخائفين، وضحايا الإرهاب في بلادنا التي لم تتعلم تنظيم التكافل والرحمة، وتنظيم الأحلام المشروعة، وتقاسم المسؤولية.
أقول هذا للرجل الذي وصل قبل أيام للمخيم هاربا من الموصل، فيرد علي: في وسعي ان أتحمل عدم حلق ذقني أسبوعا وحتى ستة أشهر، لكن لا أريد رؤية الخوف في عيون الأولاد أثناء تحليق الطائرات فوق رؤوسنا. ان الحكومة تقصف وتقول ان لديها مبرراتها، لكن لدينا مبرراتنا لنرفض الموت بهذه الطريقة، ولماذا تركوا داعش تدخل علينا، ثم قالوا انهم مضطرون لقصفنا وقصفهم دفعة واحدة؟
ليس موقفا عراقيا فريدا. ليست المرة الأولى التي نجلس فيها تحت سماء مملوءة بطائرات تزأر لتصفي حسابات السياسة، هناك في الاعالي، بثمن لحم بشري صالح للشواء في الأسفل. على أي حال لسنا سوى ومضات خضر وحمر على شاشة الرادار.
ولكن هل حقا أننا سنظل حيارى في شأن الحرب؟
ليس حلماً مثالياً هو السلام. كما ان الحرب ليست أمرا يمكن التخلص منه بسهولة. لكن الأمم المتحضرة في عصرنا هذا استطاعت خوض حربها "الفاصلة" تقريبا، وعاشت بجرعة سلام كبيرة. اما نحن فبقينا دوماً نتمنى ان تكون الحرب هي الأخيرة الفاصلة، وان نحظى بعطلة من الموت. وأمنياتنا هذه ظلت تعجز عن التحقق.
نغادر المخيم مطأطئي الرأس مرتكسين في العجز، بينما الغبار يغلف الخيام والدروب الغارقة في التيه والمصير المجهول. تيه يرسم تيهنا جميعاً. كل فرد منا يمكن ان يجد نفسه في ظروف مشابهة بمجرد ظهور بضعة أخبار عاجلة كئيبة. طالما ان الأداء السياسي مليء بالسفه ورفض الاعتبار من التاريخ.
"صانعو السياسات" في غرف مكيفة لا يملون من النقاش. وقباطنة المقاتلات يحلقون في غرف مكيفة، فوق رؤوسنا، بينما نومض بالأخضر او الأحمر على راداراتهم. والشباب الذين كان يفترض ان نبعثهم بعيداً ليتعلموا كيف يبني الانسان بلداً، ينامون معانقين بنادق لا تسكت. والعراق تائه في دروب المخيم المتربة، ينزوي احياناً في واحدة من الخيام، يدخن التبغ الرديء ويتأمل لا معنى كل ما يحصل له منذ قرون.
في مخيم النازحين
[post-views]
نشر في: 23 يوليو, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 4
ابو سجاد
لاتحزن كثيرا على اخوتنا النازحين من الموصل والانبار فالحزن امامنا كبيرا عندما سننزح من الوسط والجنوب فالوباء الذي اصابهم سيصيبنا لامحال يااستاذ سرمد انه وباء ولابد ان بصيب الجميع فاحتفظ بشيْ من الحزن قد لانجد من يحزن علينا
زياد عبد الجواد
عار من وضعك في قوائم العار يا سرمد انت وزملائك.
محمد سلمان
الاخ العزيز سرمد المحترم بالرغم من لقاءنا في جريدة المدى في بغداد مع اخي ثامر الزيدي ومعنا الاستذ عدنان كنت اتمنى لقائكم مرة اخرى وانا اسكن السليمانية منذ 8 سنوات و متابع للمقالات ساكتب اليكم معقبا على مقالتكم حيث عشت برئى اتعس من هذا المكان لمدة 8سن
رعد الصفار
شكرا لقد عبرت عن ما يعتمر في قلب كل عراقي شريف