ملصق كبير ، بحجم عشرة أمتار تقريباً وضع على جدار متحف أورساي المطل على النهر . وقفت أتأمل هذه الطباعة المدهشة ، بهذا الحجم الذي يهيمن على البصر ، وجهان لرجلين واضحي المعالم ظهرا على سطح الملصق ، على اليسار يتبين بوضوح بورتريت فنسنت فان غوخ الذي رسمه لنفسه قبل أن ينتحر ، والى اليمين كانت صورة أنطون آرتو التي صورها له الفنان الشهير مان راي قبل انتحاره أيضاً ! فهمت الموضوع بسرعة واقتربت لأرى عنوان المعرض (الرجل الذي قتله المجتمع ) لأتأكد بعد ذلك من أنه يحتوي على الكثير من الكتابات التي كتبها آرتو حول فان غوخ ، وقد شرع في كتابتها في الأربعينات بطلب من أحد الغاليرهات الباريسية ، هذا الكاتب الذي كان يقول أن فنسنت لم يكن مجنوناً كما يدعي البعض ، فمن يرسم لوحات بهذه القيمة والأهمية لا يمكن أن يكون مجنوناًعلى الأطلاق . اذن ، المعرض ضمَّ بين دفتيه رؤية عبقريين أقدما على الانتحار وتركا وراءهما أرثا فنيا وأدبيا كبيرا وخالدا . وقد احتوى هذا المعرض بشكل رئيسي على ما كتبه آرتو سنة 1947 حول فان غوخ وأعماله ، كذلك عرضت في المعرض ما يقارب الـ50 لوحة من لوحات فان غوخ ، والتي تُعرض لأول مرة سوية وفي قاعة واحدة منذ أن رسمها فنسنت في ثمانينات القرن التاسع عشر ، فقد جمع أو أستعار متحف أورساي في باريس هذه اللوحات من متاحف دول عديدة مثل روسيا وأمريكا وفنلندا وايرلنداوهولندا وسويسرا وغيرها. أنها فرصة نادرة لرؤية أعمال مهمة مثل هذه ، تعرض هنا معاً لأول مرة .
كنت في كل مرة أزور متحف فان غوخ في أمستردام ، أتمتع غاية المتعة بأعماله الاستثنائية الخالدة التي تتجاوز المئات وكذلك رسائله الأصلية التي أرسلها الى أخيه ثيو والتي يبدأها عادة بـ ( ثيو الغالي ) . لكن رغم ذلك كانت عيناي تنتظر رؤية أعمال أخرى مهمة لهذا الرسام وتبحث عنها في هذا المتحف أو ذاك ، في هذه المدينة أو تلك ، الى أن جاء معرض متحف أورساي هذا الذي أزوره اليوم في مدينة باريس . كنت أنتظر لوحات نادرة لفنسنت ، لوحات تشكل انعطافه فنية في مسيرته الفنية أو في تاريخ الرسم بشكل عام ، حتى ظهر أمامي بورتريت ( العم تانغي )الذي أستعير من متحف رودان ، كان هذا البورتريت الذي داهمني فجأة ، يشبه جائزة كبيرة أحصل عليها في هذا المعرض ، فكم عشقت هذا العمل وفكرت به ، أنا الذي أعتبره واحدا من أفضل خمسة بورتريهات رُسمت في تاريخ فن الرسم كله .يظهر تانغي وكأنه يروي حكايته التي لا تنتهي مع فنسنت ، هو الذي كان يمنحه ألوان وأدوات الرسم في باريس ، هذا الرجل المسن كان قد أهتم بالرسام ورعاه في أحيان كثيرة . يشبك تانغي هنا أصابعه مع بعضها ويضعها في حجره ، جالساً في مكان مفتوح وبوجه مبتسم وكأنه يمنح الرسام كل وقته للانتهاء من الرسم ، بينما تظهر في الخلفية مجموعة كبيرة من الرسوم اليابانية ، تلك الرسوم التي أثّرت كثيراً وقتها على فان غوخ والكثير من مجايليه من الرسامين . في هذا البورتريت ترى عجائن اللون تتحرك مع تحرك الموديل الذي لم يكن مرسوماً بالألوان فقط ، بل مصنوعاً من عجائن ملونة .
هذا واحد من الأعمال التي جعلت فنسنت يتجاوز عصره وزمه ، أنه هنا يرمي سنارته الفنية في بحر المستقبل ، يريد أن يشاركنا - نحن الذين جئنا بعده – قوة الرسم وأنتصاره . مضى فان غوخ بعيداً وبقي هذا البورتريت الخالد ، شاهد على تلك اللحظة التاريخية المهمة ، شاهد على بقاء الرسام على قيد الحياة حتى بعد انتحاره .
البورتريت الخالد
[post-views]
نشر في: 25 يوليو, 2014: 09:01 م