ليست المدينة مجرد تجميع اتفاقي لعدد من المباني تشترك في عنصر المكان – كما هو الحال الآن في معظم مدن العراق - ، ولكن هناك العديد من العناصر والعلاقات التي تربط هذه المباني مع بعضها، بل إن المدينة في الواقع هي هذه العلاقات، والمباني هي الوحدات ال
ليست المدينة مجرد تجميع اتفاقي لعدد من المباني تشترك في عنصر المكان – كما هو الحال الآن في معظم مدن العراق - ، ولكن هناك العديد من العناصر والعلاقات التي تربط هذه المباني مع بعضها، بل إن المدينة في الواقع هي هذه العلاقات، والمباني هي الوحدات المادية التي تعتمد في حياتها عليها.
يتكفل المخطط الحضري Urban planner بوضع الأسس والأرضيات المناسبة لبناء هيكل المدينة وتوزيع فعالياتها وتحديد العلاقات فيما بينها، فيما يتكفل المعماري Architect والمصمم Designer بتشكيل تلك الوحدات المادية – المباني – والعلاقات الداخلة فيها لتكون عناصر عاملة ضمن تكوين المدينة العام. فاذا ما أفلح المعماري في اخراج مبنى ما ، فأنه يصنع عنصرا ً صالحا ً في مجتمع المدينة، وبعكس ذلك فأنه يخلق فردا ً شاذا ً في هذا المجتمع، مما قد يحيل المبنى الى جزء مثير للفوضى قد يتحول أحيانا ً الى ورم خبيث ينشر عدواه في جسد المدينة. فما اكثر ما نرى اليوم من مباني العلب المعدنية – الالكوبوند – التي تشوه هيكل المدينة ومظهرها وبيئتها وتفسد الذوق العام. أو الإصرار على نظام التصميم الخارجي Outwards Planning والذي يخالف تماما ً طبيعة المناخ والمجتمع، والذي ساهم بشكل واضح في تدمير بنية المدينة وفي جرّها بعيدا ً عن مفهوم الاستدامة Sustainability والذي تسعى مدن العالم جاهدة نحو تطبيقه.
فهل يدرك المعماري مسؤوليته هذه؟
وهل يدرك أن صفته كـ "معماري" تأتي من مشاركته في "إعمار" المدينة لا في تشويهها وإفساد بنيتها؟
يستطيع المعماري أداء مسؤوليته هذه من خلال طرق عدة، منها اتساع ثقافته وقدرته على انتخاب ما هو مناسب لمدينته، دون الجري وراء موضات معمارية رخيصة لا تساهم في تأكيد النظام الحضري. وحين يتمتع المعماري بثقافة كافية فأنه يستطيع تطويع حتى الموضات العابرة أو الحركات Movements المهيمنة على واقع العمارة الآني الى منتج معماري على درجة من الرقي وبشيء من الاصالة والانتماء. فبقدر ما كانت العمارة الحديثة Modernism طاغية في حينها في العراق وعلى مجمل أساليب ونتاجات المعماريين آنذاك غير أن أعمال رواد كالجادرجي ومكية وقحطان عوني وبرغم ما يصفها به أستاذنا السلطاني " بالقطيعة" فانها لم تكن قطيعة بشكل تام فقد ظلّوا على وفائهم للعمارة المحلية ولطرزها وموادها الانشائية واشكالها السائدة وتوافقها مع البيئة الحضرية العامة للمدينة.
كما يجدر بالمعماري الابتعاد عن النزعة الشخصية Personality المتطرفة في فرض الأفكار والأشكال التي يفضلها هو دون مراعاة لطبيعة المدينة وعمارتها. والكثير من المباني المنتشرة الان في مدننا لاتمثل سوى انعكاس لرغبات المعمار ونزواته الشكلية. وعلى النقيض من ذلك حين يتحول المعمار الى أداة منفذة لرغبات رب العمل والتي غالبا ً ما تكون شكلية سطحية يهيمن عليها طابع الرغبة في التفاخر في حالة القدرة على التمويل، أو الشحّ والاقتصاد في حالة عدمه. ولابد للمعمار من القدرة على الإقناع وتبني أفكار وأساليب أكثر رقي من تلك السائدة.
تساهم المدارس المعمارية بشكل فعّال في صنع شخصية المعماري وقناعاته في العمل، وما زالت مدارسنا قاصرة عن وظيفتها هذه، فطالما يستمر المعماري في دراسته فانه يلتزم بأفكار هذه المدارس الى حد الفنطازية والطوباوية ، وما أن ينهي دراسته ويلج الحياة العملية حتى يتخلى عن معظم أفكاره مقابل الذوق العام والأساليب السائدة ومايفرضه السوق ورب العمل.
الى جانب ذلك يجتمع المعماريون أحيانا ً في تكوينات مصغّرة للارتقاء بالعمل والفكر المعماري ومن أجل إشاعة ثقافة جديدة وإرساء أساليب ونظريات مستحدثة لمحاولة بثها في المجتمع. لقد كانت مجموعة CIAM مثلا ً رائعا ً لهذه المحاولات في زمن صعب نسبيا ً، والتي ساهم في تأسيسها رواد الحداثة مثل لي كوربوزيه وجيرت ريتفلد . كما وبشكل ما يمكن اعتبار مدرسة الباوهاوس بقيادة والتر كروبيوس والتي تحولت فيما بعد الى واحدة من أعظم مدارس العمارة مثلا ً آخر. كما وتشكلت مجاميع أخرى مثل Metabolism في اليابان و Archigram التي أسسها المعماري البريطاني Peter Cook . وفي العودة الى مدن العراق وعمارتها وأوساطها المعمارية يمكن القول أن هذه الثقافة تكاد تنعدم تماما ً بل لا وجود لها ومامن أشارة الى احتمال نشوء مثل هذه التكوينات العصرية الرائعة الآثار.
عادة ما يتخيل المعماري أنه فوق المجتمع وفوق رب العمل وأن معرفته في العمارة تمنحه الحق في التعال، وعادة ما يكون المعماري على خطأ وخاصة عندما يبتعد عن معايشة Experience الحدث المعماري الموكل اليه. ويساهم هذا الادراك للعلاقة بين المعمار والمجتمع في تأكيد عزلة المعماري وعجزه عن ايصال أفكاره وأن كانت تستند الى معرفة. ولعل هذا ما جعل عددا ً من معماريي العراق بعيدين عن عامة المجتمع وأن أعمالهم تقتصر على فئات خاصة جدا ً من دون غيرها، أو ما يسمى أحيانا ً بمعماريي النخب.
رغم كل هذا تبقى هذه الفئة من المعماريين أقل سلبية على هيكل المدينة الحضري وعلى طبيعتها، وروحها، وثقافاتها، وتطورها، وأقل خطورة على تراثها وخزينها الحضري، وأقل انزلاقا ً نحو أساليب ونزعات معمارية فوضوية لاتستند الى منطق أو فلسفة ما. وعادة ما تتحول أعمالهم المعمارية الى نماذج مميزة منغلقة على نفسها وفي بيئتها.
غير أن هناك فئة من المعماريين الذين أصبحوا جزءا ً من السوق الشعبي الشائع، فلم تعد نتاجاتهم استجابة مستسلمة للسوق ومتطلباته فحسب، بل أصبحت جزءا ً من الفوضى الحضرية السائدة، وواجهات عريضة للاعلان عن نزوات شكلية محضة لاتملك أي رصيد ثقافي أو فلسفي أو علمي. مبان لم ولن تستطع أن تكون جزءا ً من الخزين الحضاري أو حتى جزءا ً من الهيكل الحضري للمدينة. بل العكس تماما ً فهي أشبه ماتكون بالاجسام الغريبة عن المدينة وهيكلها، وأحيانا ً تتحول الى أورام خبيثة تنخر في جسد المدينة. وقد يحدث أحيانا ً أن تنشر هذه الأورام عدواها في هذا الجسد بصورة سلسلة من المباني المشابهه فيتحول القبح الى حالة عامة تعم المدينة، في حين تتحول المباني الرزينة الى اجزاء غريبة عنها، وتتحول جماليات الماضي الى نقاط مستهجنة وأماكن مهجورة.
وهناك أمر تجدر الاشارة اليه هنا هو ان الهيكل العام للمدينة وبالخصوص السكني منها لايتطلب الكثير من التنوع Variety والتفرد Individuality أذ يتحول الامر الى فوضى شكلية لامنطق فيها ولامبرر لها، وهذا ما تعانيه كل مدننا في العراق حاليا ً وقد ساهمت عوامل عديدة في تأكيد ذلك منها عدم وجود مدرسة معمارية واضحة الملامح، وضحالة الثقافة المعمارية لدى العموم، بالاضافة الى ضعف المعماري في أدراك مفهوم المدينة وتكاملها وعدم قدرته على أيصال الافكار المعمارية السليمة الى هذا المجتمع.
لقد ساهم المعماري العراقي المعاصر وبشكل فعّال في تدمير بنية المدينة والهبوط بها من مفهوم الهيكل الحضري الى فوضى بوحدات متنافرة – فهل كان هذا أنعكاسا ً لواقع المجتمع ؟ - ، كما ساهم المعماري في تبني نظريات وافكار غريبة لا منطق فيها بل وساذجة أحيانا ً، كما أنه استخدم وسائل وأساليب وتقنيات مبتذلة لم تزد المدينة ومبانيها الا ضعفا ً وقلة جودة وايغالا ً في هدر الاقتصاد فيها، فأشاع خرابا ً كان الأجدر به أن يكون إعمارا.
جميع التعليقات 1
فيصل نعيمي
اؤيدك بان المحيط الحضري وخصوصاالسكني لايتطلب الكثير من التنوع والتفرد أذ يتحول الامر الى فوضى شكلية لامنطق فيها ولامبرر لها، وارى ان الحل ليس يوجود مدارس معمارية تدرس العمارة كعلم حضري، اوتحسين الثقافة المعمارية لدى العموم، او رفع ادراك المعماري لمفهوم ا