TOP

جريدة المدى > عام > في ذكرى عبد الوهّاب البياتي.. الشاعر الذي راقب الموت طويلاً (1-2)

في ذكرى عبد الوهّاب البياتي.. الشاعر الذي راقب الموت طويلاً (1-2)

نشر في: 15 أغسطس, 2014: 09:01 م

* في البدء:في كل عام ، وحين يحل الثالث من شهر آب ، ومنذ خمسة عشر عاماً تستعيد ذاكرة الثقافة العربية ، والعراقية على نحو خاص ـ وكما ينبغي منها ، ويقتضيه واجب العرفان والوفاء النبيل للإبداع وأهله ـ ذكرى رحيل الشاعر العراقي الكبير (عبد الوهاب البياتي

* في البدء:
في كل عام ، وحين يحل الثالث من شهر آب ، ومنذ خمسة عشر عاماً تستعيد ذاكرة الثقافة العربية ، والعراقية على نحو خاص ـ وكما ينبغي منها ، ويقتضيه واجب العرفان والوفاء النبيل للإبداع وأهله ـ ذكرى رحيل الشاعر العراقي الكبير (عبد الوهاب البياتي 1926ـ 1999م ) الذي رسخ اسمه ، لا بوصفه واحداً من أضلاع مربع الريادة والتبني لتجربة (الشعر الحر) حسب ، بل ـ وتماهياً مع ذلك ـ لأنه من الأسماء الشعرية المهمة التي اشتغلت على تشخيص آفاق جديدة للشعرية العربية في عصرها الحديث ـ ذاكرة وتاريخاً ومساحة من التلقي الجمالي ـ زحزحت من خلالها الوعي والذائقة نحو فضاء الحداثة والتجاوز ، ومد أفق التطلع باتجاه هوية شعرية عالمية الانتماء أياً كانت مآلات ما تحقق لها.

وكما هي المقادير المدونة في الغيب لخيرة المبدعين العراقيين ـ في خيرة ما تهيأ للثقافة العراقية أن تصنعه وتجاهر بالصداح به من منجز إبداعي خصيب ـ أولئك الذين تماهوا في الرحيل عن وطنهم حاملين أعمارهم وخيباتهم وصداح إبداعهم الناحب ، حتى ترجلهم أخيراً عن صهوات أعمارهم في مساءات من شتات المدن البعيدة ، فقد قدر للبياتي أن يغادر العراق ـ في ممارسة احتجاجية دالة على رفض ما أغرق به وطنه وشعبه من ابتلاءات متدافعة بيد نظام كان يراكم حماقاته بإصرار مأساوي ـ وأن يزور بلداناً عدة ويقيم في أخرى ، حتى تلك النقلة المكانية الأخيرة الى حيث مدينة (دمشق) التي تخيرها مستقراً ، يتنفس فيها الذي تبقى له من(وشلة) عمر كانت ما تزال في كأس كينونته الأرضية ، ويريح ـ لاحقاً ـ كل وجوده جسداً وصوتاً وذكريات ـ إلى ملاذ أمن في قبر تستوعبه مساحة صغيرة من أرض تلك المدينة . 

مات البياتي ودفن حيث تخير ، ليشارك عدداً ـ ينكمش القلب أسى حين تستعاد أسماؤهم ـ من المثقفين والمبدعين العراقيين أولئك الذين اندلقت سنوات أعمارهم في المنافي ، حتى غيبهم الموت على غير وسادة وطنهم ، لتحتويهم قبور في دمشق لإيكاد يزورها إلا من تتهيأ له فرصة الذهاب إلى هناك ، وتلح في نفسه صحوة من مشاعر الامتنان والاستعادة لذلك الوجود الفذ الذي جسده أولئك المبدعين .
ومع البياتي فقد زاد على الأمر أن يدفن في مقبرة أقصى ما تكون عن المبدعين الآخرين كـ ـ الجواهري ومصطفى جمال الدين والعلامة الموسوعي (هادي العلوي) وسواهم من المثقفين الذين أطمأنوا الى حيث الوجود القبوري المتراص للعراقيين في (مقبرة الغرباء) خلف مقام السيدة زينب . لقد تناهى مسعى روح البياتي اللاهث للاغتسال بطمأنينة أخيرة حتى وصل أقصى غرب دمشق ، حيث (جبل قاسيون ) ، ليدفن ، ولكن ليس عند قبر (محيي الدين بن عربي) كما أراد وأشاع قبل وفاته ، وصرها في ذاكرته بعض من أصدقائه والمتحدثين عنه بعد وفاته ، أولئك الذين تحدثوا عن قبر البياتي المدفون في مقبرة ابن عربي من دون أن يتيقنوا الأمر ، لأنهم لم يزوروا البياتي في مستقره الأخير .الذي لم يكن فيه بجوار (ابن عربي) ، وذلك ما سنتداوله في حديث الصفحات اللاحقة .
(1)
لا أتذكر في أي من مهرجانات المربد ـ عقد الثمانينات ـ كانت قد تهيأت لي فرصة لقاء عابر مع الشاعر العراقي الرائد (عبد الوهاب البياتي) أيام وجوده في بغداد ـ فأهديته نسخة من كتابي (أثر التراث في الشعر العراقي الحديث) الصادر عن دار الشؤون الثقافية في العام 1985م ، ولم يتح لي لقاؤه ثانية حتى العام 1997م حين جئت عمان ـ قادماً من صنعاء ـ في الإجازة الصيفية ، حيث ذهبت مع أحد الأصدقاء الى(الفينيق) الذي كان البياتي قد اتخذه مجلساً يلتقي فيه بأصدقائه من المثقفين العراقيين والعرب الذين يزورون الأردن . 
أطلت الجلوس يومها معه ، وفاجأني بتذكره واقعة إهدائي الكتاب له ، بعد تلك المدة الطويلة من السنوات !
طلبت الإذن منه لأجراء لقاء مطول معه ، فوافق بعد شيء من الصمت الذي لم يكن يحمل جانب الممانعة أكثر من كونه تأنياً هو واحدة من السجايا السلوكية التي حملتها شخصية البياتي وعرفت بها .
في عصر اليوم التالي تقمصت دور الصحافي الجاد ، فحملت ألة تسجيل وكاميرا ، وجلست مع البياتي منفردين ، لننجز حواراً أمتد لأكثر من ساعتين، أفرغته لاحقاً على الورق ، ونشرت أجزاء منه في أكثر من صحيفة عربية ، وما زلت أحتفظ بالتسجيل الصوتي لذلك اللقاء كاملاً .
جلب انتباهي في ذلك اللقاء ـ واللقاءات التي تلته ـ تكرار البياتي لرغبته أن يغادر عمان الى دمشق ، ليقضي فيها بقية عمره . وكان الأمر يثير كثيراً من الاستغراب فقد توفرت له في الأردن حياة هادئة ومطمئنة ، وصار مجلسه في (الفينيق) من علامات عمان الثقافية المشهودة .كما أن أوضاعه المادية كانت قد تحسنت كثيراً ـ ولاسيما بعد حصوله على (جائزة العويس) الأدبية .
غير أن ما لمسته من بعض الإشارات العابرة عنده أنه لم يتلق من البث الشعوري للمكان الذي تمثله مدينة عمان ـ كما هي الحال مع كثير من المثقفين والأدباء العراقيين الذين جعلوا منها مستقراَ إلى حين ـ ما عهده في المدن التي أحب ، فيلقي فيها أرحلة عمره الأخيرة . ربما لأنه لم يجد في هذه المدينة ما تتطمأن إليه ذاته من أصالة المكان ونكهة التراث وعبقه، والكشوفات الروحية المنبعثة من تاريخية المدينة، والوقائع والأسماء والتواريخ التي تدثرت بسمتها ومسماها، فعمان ـ وتلك قناعة تملكتني بعد زيارة أو زيارتين لها ـ مدينة مصنوعة الوجود، حالها حال أية مدينة حديثة التشكل العمراني الذي يهيمن على إدلاله المكاني الإسفلت والكونكريت المسلح وبهرجة الإعلانات . أقول لعل البياتي واجه ذلك الشعور، بحساسيته المعهودة عنه في تلقي المكان والانشداد إليه، واستلهام مسماه ووقائعه وتأويل ذلك في اشتغالات نصية لم نجد أي شيء منها عنده في مرحلة إقامته بعمان، فهو لم يكتب عنها شعراً، ولم يشر ـ في أي من اللقاءات التي أجريت معه هناك ـ إلى تلق ذهني أو شعوري أياً كانت مقاديرهما ـ استوحاه منها مدة إقامته فيها . ونحن نؤشر هنا المكان بأفقه المادي ، وليس بما فيه من وجود إنساني احتفى ـ وعلى مختلف أصعدته الرسمية والثقافية ـ بالبياتي وأحاطه بالرعاية والتبجيل الذي بدا البياتي كثير الإشادة والامتنان له . 
لقد كانت تلك الرؤى وسواه ـ كما يعن لنا الآن ـ هي الدافع وراء رغبة البياتي لمغادرة عمان التي تحققت في أواخر العام 1998م ، حيث غادرها إلى دمشق التي ما أن أستقر به المقام فيها لأشهر حتى كتب لها قصيدته (مدينة الورد) المنشورة في ديوانه (نصوص شرقية ـ 1999م) ملحقاً بعنوانها عبارة (قصيدة حب إلى دمشق) ، وخاتماً أبياتها بقوله :
دمشق صارت وطناً للذي
أحبها في القرب والبعد
حبي لها قصيدة في دمي
كتبتها وجداً على وجد 
لكن المقام في دمشق لم يكن طويلاً فقد دعته مدن العالم السفلي إليها ، ليتوفى البياتي بعد أكثر من عام بقليل عن عمر بلغ الثالثة والسبعين . 
(2)
كان البياتي إذن كثير التصريح برغبته التي بدت أقرب إلى النبوءة أن يقيم في (دمشق) أواخر سني عمره . وكان يردفها برغبة أخرى : أن يدفن حين موته الى جوار المتصوف (محي الدين بن عربي) المشهور قبره ومقبرته هناك .
وإذ حققت له أقداره الجزء الأول من رغبته فأقام في دمشق ومات فيها ، فقد كان لها رأي آخر في الجزء الباقي منها ، فلم يتهيأ له أن يلقي بجسده أخيراً بجوار محيي الدين بن عربي المكان الذي آثره بأمنيته تلك ، مردداً إياها ـ قولاً وكتابة ـ لمرات عدة.
يقع ضريح (محيي الدين بن عربي) ومقبرته عند أدنى سفح من جبل (قاسيون) المطل على دمشق من جهتها الغربية، وفي حي يحمل اسم هذا المتصوف الكبير . وقد أتيح لي وعائلتي ـ وبعد سنة من رحيل البياتي ـ أن نذهب إليه كي نزور قبر البياتي ونترحم عليه ، وكانت المفاجأة أن يرد علي أحد القائمين على المقبرة ـ بعد أن قلب صفحات سجل كبير أمامه ـ وبلهجته الشامية العالية النبرات (ما عنا هلإسم !) . ألحفت عليه بطلب التدقيق في سجله أكثر ، فكان يكرر عبارته وهو يقلب الصفحات ، لينهي الأمر بالجزم المؤكد .غادرناه شاكرين ، لندلف نحو قبر ابن عربي نزوره وإحساس من الخيبة والحزن يراكم أعباءه على أصواتنا بعد أن لم نجد قبر البياتي هناك. وعند الباب الخارجي للضريح أوقفني أحد الشباب ليتأكد أني كنت أسأل عن قبر الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي ، وحين أجبته مؤكداً الأمر ، أخبرني بأنه مدفون في مقبرة غير هذه ، اسمها (مقبرة زين العابدين) ، وهي تقع على مبعدة من هذا المكان ، يستوجب الوصول إليها الصعود الى سفح أعلى من المكان الذي نحن فيه ، وهو ما قمنا به فعلاً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram