ما فتئ "البيت السكني" يعتبر المفردة التصميمية الأكثر إدراكاً وشيوعاً لدى الناس. انه الفضاء والمكان، الذي يمنح الفرد معنى الانتماء، ويهبه السكون والألفة والحميمية. كما إنه الحيز الذي مثلما نسكنه، فهو يسكننا. في مداخلة ممتعة وذكية، أراها لا تخلو من شاع
ما فتئ "البيت السكني" يعتبر المفردة التصميمية الأكثر إدراكاً وشيوعاً لدى الناس. انه الفضاء والمكان، الذي يمنح الفرد معنى الانتماء، ويهبه السكون والألفة والحميمية. كما إنه الحيز الذي مثلما نسكنه، فهو يسكننا. في مداخلة ممتعة وذكية، أراها لا تخلو من شاعرية ايضاً، كتبت الأديبة العراقية والإعلامية "سلوى الجراح" عن معني البيت، اقتطع منها الاتي <.. هو البيت الذي لا غنى لنا عنه. حتى الحلزون الصغير تتباهى به فتقول: "بيتي على ظهري علا". فهي تحمل بيتها، هذه الصدفة الملتوية، على ظهرها وتلجأ إليه عند الشدائد، وتختفي فيه عند أول شعور بالخطر. نحن البشر لا نحمل بيوتنا على ظهورنا. هي التي تحملنا، تدفئنا وتسترنا وتمنحنا الطمأنينة وتريحنا من تعب يومنا. فيها ننام ونأكل ونستحم ونحب ونفرح ونحزن ونغضب ونسامح ونستقبل الضيف ونودع من يرحلون عنا، ونستعيد الذكريات. وحين نفارق بيتنا نحن إليه. لكل صغيرة وكبيرة وإن كنا محظوظين وعدنا له نهمهم في فرحة اللقاء "ليس هناك أجمل من بيتي">.
بالنسبة الى العراقيين، (بالنسبة الى المعماريين العراقيين خاصة)، قد لا يكون هدف بناء وتشييد "بيت" سكني، يكمن في مهمته النفعية، او ينحصر في غايته الوظيفية. ثمة نَفَس مضاف آخر، يكمل إنجاز تلك المهمة، يتمظهر عادة في الرغبة العارمة لاصطباغ البيت بذاتية وشخصانية مميزة، مُعبر عنها باختلاف، وإن عُدّ طفيفاً، لكنه يظل ينطوي على تأكيد حضور الذات "الساكنة" غير المتماثلة في بيتها المستقبلي. بالطبع، غالبية البيوت المنفردة والخاصة تنطوي على وجود هذا الاختلاف، فهو مسوغ لخصوصيتها وتفردها. بيد ان ما يسم البيت العراقي الخاص هو الذهاب بعيداً بهذا التوق نحو سردية، تبالغ بهذا الإحساس، بل وتجعله هاجساً تصميمياً بمقدوره ان يكون العنصر المهيمن في التكوين والصفة الغالبة في لغته المعمارية. في دراسته الأنثروبولوجية الممتعة التي نشرها في كتابه "مقام الجلوس في بيت عارف آغا" الصادر في 2001، يذهب مؤلف الكتاب المعمار العراقي رفعة الجادرجي الى التذكير بتلك "الأواصر" والصلات اللتين تنشئا ما بين <المعمار> بمفهومه الحرفي، وبين أهل الدار الذين يوكلون له مهام تصميم بيت العائلة المستقبلي. اذ يشير الجادرجي الى إمكانية مد تلك الأواصر بينهما طويلا في الزمن، بحيث يضحى المعمار احد المقربين للعائلة الذي يعرف الكثير عن احتياجاتها، والقادر على إدراكها وتنفيذها. ومثل هذه السمة الملازمة للبيت العراقي، قد لا تكون حاضرة بقوة في ثقافة الآخرين البنائية. ليس هذا تعالياً او تبجحاً، بما هو حاصل، وإنما أراه نوعاً من الإضافات المثرية لمفهوم "السكن"، لمعنى "البيت": معماريا وإبيستمولوجياً. وقد يكون مرد سمة هذه الخصيصة راجعاً لكون "البيت العراقي" هو سليل تجارب رائدة ومميزة، عرفتها حضارات هذه الارض الذي يشكل العراق الحالي اسماً لها، جاعلة منها مفردة فيما يعرف بـ "تايبلوجية" النوعية التصميمية. فالشواهد التاريخية تنبئنا من ان ممارسة عمارة البيت السكني الحضري، كانت قد تبلورت وتأسست في العراق، في <اور> تحديداً، قبل نيف وأربعة آلاف سنة. وهذا النشاط التصميمي الموغل في القدم، على الارجح، هو الذي يجعل العراقي يتشبث بـ "بيته" الخاص المترع بالذاتية والحافل بالشخصنة، بحيث تنفرد به، الآن، مدينة بغداد، ببيوتها السكنية المفردة كجزء من خصوصية النسيج التخطيطي البغدادي، والابتعاد قدر الإمكان من ممارسة بناء الأبنية السكنية العالية. ورغم امتداد بغداد وظهور المشاكل التخطيطية جراء ذلك التمدد الواسع، فان كثراً من سكنة المدينة ما انفكوا يفضلون العيش في بيوت خاصة عن الذهاب نحو العيش في أبنية سكنية مرتفعة. هل هذا يعتبر خطأً تخطيطياً؟ قد يكون! لكن هذا هو ما يميز بغداد الراهنة، عن بعض الحواضر العالمية الأخرى. والتمييز، هنا، لا يعني بالضرورة "التمّيز" إذ تعد العاصمة العراقية من قلائل الحواضر الكبرى العالمية التي تؤثر السكن الأفقي المفرد على العيش في شقق الأبنية السكنية العمودية. من هنا، ظل بناء "البيت السكني" (البيت، وليس الدار!)، يمثل فعلا تصميميا محببا لدى الكثيرين من مصممي العراق. هم الذين اعتبروا تصاميمهم السكنية الخاصة بهم ، بمثابة حقلا تجريبياً لأفكار معمارية جديدة ورائدة؛ نزع مصمموها الى اختبار جدوى مثولها في المشهد وتبيان مصداقية حضورها بالخطاب.
ولعل ما انجزه المعماريون العراقيون في هذا الحقل النوعي من النشاط التصميمي، مَثلّ بحد ذاته، موضوعاً مثيرا ولافتاً للاهتمام. ذلك لان هذا المنتج أسس بنماذجه السكنية المعبرة، تنويعات مبتكرة وغير معتادة في الممارسة السكنية المحلية؛ إن كان لجهة جمالية اللغة المعمارية المتحققة، أم لناحية التعاطي المختلف مع موضوعة التصميم. فعندما ينأى المعمار بنفسه عن مختلف التكبيلات التي يضعها أرباب العمل أمامه، وعندما يشعر بأنه حرّ، غير ملزم بمراعاة رغباتهم غير المعقولة أحياناً، عندما يعي المعمار، بأنه بات المصمم ورب العمل في آنٍ معاً، فمن المتوقع أن يكون العمل التصميمي الناتج متسماً على قدرٍ كبير من الإبداع والتجديد، مثلما يكون حافلاً بمتعة التقصي عن فتنة الحداثي، وغير النمطي. لنتذكر ما أنجزه، فقط، المعماريون العراقيون الرواد، على سبيل الاختصار، في هذا الشأن. ولنرى المقاربات الذاتية والمختلفة التي خلقت ذلك الكم المدهش من نماذج العمارة السكنية. فبيوت ارشد العمري وأحمد مختار ابراهيم وحازم نامق في بارك السعدون، وبيتا جعفر علاوي ومحمد مكيه في كرادة مريم، وبيت مدحة علي مظلوم في المسبح، وعبد الله إحسان كامل في الأعظمية، ورفعة الجادرجي في شارع طه، وقحطان عوني في الوزيرية، وبيت قحطان المدفعي في شارع المغرب، وحازم التك في الوزيرية، وهشام منير ومعاذ الآلوسي في الكريعات، ومهدى الحسني في حي المتنبي، وغير ذلك من النماذج التصميمية، التي الفت متناً إبداعيا بارزاً وإستثنائي في أهميته التصميمية. لكننا، هنا، سوف نتوقف عند احد تلك الأمثلة التي عكست في رأينا، تلك الاهتمامات التي ذكرناها تواً، وخصوصاً عندما يتماهى دور المعمار ويتمازج مع مهمة رب العمل. نحن نتحدث عن "دارة ياسر عبد المجيد" في حيّ الجادرية.
ينزع مصمم "الدارة" (شيدت ما بين 1972-5)، المعمار "ياسر حكمت عبد المجيد" (1937)، أن تكون لغة عمارة مبناه صدى لجملة من آرائه التصميمية ومعتقداته النظرية فيما يخص طبيعة العمل المعماري وجدواه. وهذا النزوع التصميمي، هو الذي يجعل من عمارة الدارة إياها، لتكون "حالة دراسية" Case Study ممتعة، ومواتية ..ايضاً، لإظهار صدقية تلك الآراء وتبيان جديدها في الخطاب. وهو لئن اعتمد أسلوب <الطبقات> Layers لحل المعضلة التكوينية، التي هو بصددها، فإنما انه فعل ذلك لتكريس حداثة مقاربته التصميمية، وتطويراً لمفهوم "القطيعة الابستيمولوجية"، الذي نادي بها الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار. والقطيعة، هنا، بمعنى من المعاني، التغاضي عن استنساخ السائد والمألوف من العناصر البنائية، والاتجاه نحو اجتراح عناصر أخرى مغايرة، ولكن بحمولة دلالية تشي بما سبقها. نحن، اذاً، إزاء ممارسة تصميمية مشوقة، لا تقتصر مهام "طبقاتها" على تحديد وتشكيل سطوح واجهة الدارة "الفرتكالية"، وإنما تتعداها لرسم "خطوطها" الأفقية ايضاً، منشأه بذلك "طارمة" الدارة الخرسانية بارتفاع جبهتها المتواضع، والعالقة "لطبقة" السطوح الآجرية العمودية اسفلها. تتيح وضعية "الطبقات" إمكانية الحصول على امتدادات أفقية واضحة، يستثمرها المصمم، بولع ظاهر، لتأكيد سيادة وسيطرة النزعة الأفقية لمبناه، هو التائق من خلالها التعبير عن حضور خصائص الألفة والحميمية لبيته السكني. وهو وإن حرك سطوح طبقاته التي بحوزته نحو الأمام والخلف، تبعاً لتوقيعات أحيازه المصممة؛ فانه ما انفك يظل محتفظاً بخاصيتها الأفقية. ثمة "فتحات" لنوافذ وأبواب تبدو داكنة، معمولة على سطوح الجدران الفاتحة. انها تبدو بأشكالها الهندسية المنتظمة، المحفورة في وسط صلادة الجدران الآجرية الممتدة، وكأنها ترسخ حضور أفقية تلك الجدران، أكثر بكثير من إنها تعمل على "إخفاء" ذلك الحضور. وبما أن المعمار، مسكون بهذه الأفقية، فانه، أولاً، يعمل على إبعاد كتلة "بيت الدرج" الموصل الى سقف الدارة بعيدا نحو العمق، حتى لا يضيف بعداً "فرتكالياً" جديدا، غير مرغوب الى واجهته؛ وثانياً، يسعى وراء تأكيد تلك الأفقية عبر تلاعب حر، لتوظيف "طبقة" ممتدة، مشغولة بالخرسانة النظيفة Fair Face ، مهمتها تفعيل عنصر التضاد التكويني، عبر معاكستها لعمودية ما تحتها، وتضادها مع خشونة Brutality ملمس الطابوق بدرجات "تونات" Tones ألوانه الفاتحة المتعددة. وهو بهذا "الفعل" التصميمي، يقترب كثيرا من مقاربة "ميس فان دير روّ" التي شاهدناها في جناحه "البرشلوني" الشهير، حيث الاختزال الواعي للأدوات التكوينية، وحداثة التوظيف للعناصر التصميمية، والتلاعب الحرّ بين الأفقي والعمودي.
في دارة الجادرية، ثمة اهتمام واضح من قبل المعمار لجعل منظومة المناسيب المتباينة جزءً اساسيا من الحل التكويني. اذ يتطلع المصمم، ان تكون قرارات الارتفاع والانخفاض لمستوى الممرات الرابطة، التي احدثها بمهارة، ان تكون حدثاً تصميمياً يبتغى منه الحصول على مزيد من التشويق التكويني. ويبقى بالطبع، "التفصيل" حاضرا بقوة في صميم القرار المعماري للدارة. انه، هنا، "سيد" العناصر التكوينية، والباعث الأساس لجماليات المبنى، والخالق لمهارة وحذاقة الأسلوب البنائي. ويلفت "ياسر"، في هذه الناحية تحديداً، نظرنا الى نوعية الثقافات المعمارية الرصينة التي يمتلكها، وخصوصا ما تعلمه من معايشته ودراسته في إنكلترا، لمعنى "التفصيل" وجدواه التصميمي. انه يذكرنا، كما يحيلنا بتوظيفاته الكثيرة: الممتعة والفاتنة والجذابة والحداثية، الحاضرة بشدة في التصميم الى تقاليد <حركة الفنون والحرف> Arts and Crafts Movement الإنكليزية المعروفة، وشغفها العميق بالتفاصيل. فالدارة اكتسبت جمالياتها من تلك الاستخدامات المتنوعة لحضور التفصيل، مثلما حصلت عليها جراء براعة توزيع الكتل من خلال طبقات سطوحها ذات الامتدادات الأفقية. ثمة بساطة محببة تضفي شعورا بالسكينة والانتماء الى عمارة الدارة المصممة، البساطة التي تشي بالإبداع، الإبداع الذي يخلق الجمال، الجمال الذي يلقي بظلاله على "فورم" المبنى، جاعلاً منه حدثا تصميميا مشوقا في تنويعات منتج العمارة السكنية المحلية!
و"ياسر حكمت عبد المجيد"، معمار الدارة، المولود ببغداد سنة 1937، كان قد أكمل دراسته المعمارية في مدرسة "الجمعية المعمارية"A.A. اللندنية المشهورة سنة 1963، التي دخلها عام 1956، هو الذي اكمل تعليمه الابتدائي والثانوي في لندن ايضاً، عندما كان مقيم هناك مع عائلته، بعد تعيين والده سنة 1945، ملحقا ثقافيا بالسفارة العراقية في بريطانيا. عين مهندساً في وزارة النفط عام 1964، وصمم عدة مبانٍ تخصصية تابعة الى عمل الوزارة بضمنها مباني مختبرات في بغداد والبصرة. صمم سلسلة من البيوت المتلاصقة Row Houses في شارع 14 رمضان ببغداد سنة 1968 (كان عددها أربعة بيوت، وكان موقعها بالقرب من أفران "نصير"، اعتبرها من خيرة نماذج الأبنية السكنية المتلاصقة بالعراق، الا إنها أزيلت مؤخرا، مع الأسف، بسبب تغيير نوعية استخدامات الشارع). صمم ايضا دائرة تابعة للكمارك عند ساحة الأندلس سنة 1972. كما صمم العديد من البيوتات السكنية في بغداد، بضمنها بيت غسان العطية في الجادرية سنة 1978. ساهم مع معاذ الآلوسي وبالاشتراك مع مودة العلاق وآمال القره غولي، عام 1966 في إصدار مجلة "ننار"- التابعة الى جمعية المعماريين العراقيين. وعدّ صدورها، وقتذاك، من الأحداث المعمارية والثقافية اللافتة، رغم انها توقفت عن الصدور بعد عددها الأول.. والأخير. اشترك مع طارق الجدة في تأسيس مكتب استشاري. التحق للتدريس في قسم العمارة بكلية الهندسة /جامعة بغداد سنة 1974، وظل يعمل هناك كأحد التدريسيين اللامعين للقسم، لحين إحالته على التقاعد سنة 2010.