TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مكتوب على الجلد

مكتوب على الجلد

نشر في: 17 أغسطس, 2014: 09:01 م

خبرة الإصغاء للتيارات الموسيقية الجديدة ليست خبرة يسيرة. إنها تختلف عن خبرة القراءة، وخبرة تأمل اللوحة أو الفيلم. خبرةُ أحدنا مع حقول الإبداع الأخيرة تتم داخل وسائط مألوفة في الاستخدام العام: اللغة، اللون والخط، والصور المتحركة.. الخ. مع الموسيقى ليس هناك من وسيط مألوف في الاستخدام. الصوت تجريد أثيري، مهما كان بسيطاً كاللحن الخيطي، أو مركباً كالهارموني المتعدد الخيوط.
خبرة الأذن الموسيقية تبدأ في أولى مراحلها عادة مع ما هو رائق، ومنسجم في توازن عناصره (الإيقاع، اللحن والهارموني). المرحلة الكلاسيكية من تاريخ الموسيقى تلبي هذه الحاجة. فالعمل الموسيقي بين يديْ "هايدن" و"موتسارت" بالغُ الوضوح، ملموسُ التوازن. حتى تكاد تمسّ الانتقالَ من جملة اللحن الأولى إلى الثانية بأصابع اليد. هذا الصفاء بدأ يرتبك مع المرحلة الرومانتيكية. صارت موسيقى بيتهوفن مفكرة. تريد أن تنتزعَ من أعماق الفرد شبكةَ الالتباسات، على هيئة شبكة لحنية غير يسيرة على الأذن التقليدية، وغير مُستساغة. في المرحلة الحديثة ذهب الموسيقي بصحبة عالم النفس إلى الأركان المعتمة في الروح. صار يطمع، مع الشاعر والرسام والسينمائي..، في إبحار داخلي، يكاد يكون مُغترباً تماماً عن إبحار الموسيقى الخارجي في عالم الجمال المتناغم. الإبحار الذي ألفته الأذنُ في الموسيقى عادةً.
ولكن وسيلة الشاعر، والرسام، والسينمائي ملموسة مرئية، كما قلت. ووسيلة الموسيقي ليست كذلك. وبالرغم من أن السابقين حاولوا محاكاةَ الموسيقي في جعل وسائلهم (اللغة، اللون والخط..) غايات في ذاتها، إلا أن الموسيقى ظلت ذات امتياز لا يُضاهى. ومن هنا يسّرت على الأذن الموسيقية قابليةَ أن تهضم بسرعة التغيرات التي تطرأ عليها. لغة الشاعر، مهما تجرّدت، تظل لصيقة بالمعنى. البيت الشعري الذي يكتفي بلغته وسيلةً وغايةً في ذاتها يبدو غير مُحتمل على الإدراك. والرسم أو النحت، مهما تجرّدا، يظلان يُضمران محاكاةً خفيةً للطبيعة. لأن اللوحة التجريدية ليست إلا اجتزاء وتفصيل صغير من مشهد أكبر. والمحاكاة تنطوي على دلالة. ولكن أي معنى نتوقعه من الموسيقى؟
هذا الفارق يسّر لديَّ استيعابَ التيارات الموسيقية الحديثة. مرحلة بدأت معي منذ أكثر من عشرين عاماً. صرت أنتقل من "شوبرت"، وقد أشبعتْ موسيقاه حاجةَ بي للألفة والحميمية والغناء مع الحياة، إلى "شوينبيرغ" ومدرسته، بفعل حاجة مُسْتجَدة للتعبير عن التباس داخلي بالغ الغموض. بعد "شوينبيرغ" في النصف الأول من القرن العشرين تفجرت موجة الحداثة وما بعدها، بصورة تستدعي مني ردةَ فعل متوقعة. ففي كل مرحلةِ تحوّلٍ عاصف، يدبُّ، بل يتطفّلُ عديمو الموهبة والنهّازون، ويملؤون بفعل قواهم العضلية كلَّ ركن. يحدث هذا في كل الفنون، لا في الموسيقى وحدها. الأمر الذي جعلني أُحجم، وأرتاب، ثم أقاطع. وهذه القطيعة لم تكن لصالحي. لأني حين عدت إلى المجرى الموسيقي، وجدتُ الغلبةَ في التيار للموجات المتواصلة، التي تشم فيها رائحة الموروث والبكوري في آن. فصرت أعود من جديد لأكتشف الأصوات التي تلبي لدي أكثر من حاجة متعارضة مع جارتها، داخل النفس.
هذه خاطرةٌ أقبلت عليّ وأنا غارق في حمّى المشاهدة لأوبرا جديدة بعنوان " مكتوب على الجلد" (دار الأوبرا الملكية) للموسيقي البريطاني جورج بِنجامين، الذي عرفته شاباً، يدرس على يد الفرنسي "ميسيان" أيام جئت لندن. وهو الآن أشيب الشعر مثلي، وقد ملأ اسمه الأسماع. حكاية الأوبرا مأخوذة عن قصة تعود إلى "تروبادور" القرن الثالث عشر، ولقد تضمنت في "الديكاميرون" لبوتاشيو. تتحدث عن مالك أرض ثري يكلف صبياً بكتابة مصورة عن منجزات عائلته. يُنجز الصبي المخطوطة التي تأسر زوجة الثري، المغتربة عن كيان الأنثى فيها، فتقع في حبه. الثري يقتل الصبي بوحشية، ويُطعمً زوجته قلبَه الطري. الأمر الذي يدفع الزوجة إلى الانتحار.
هذه الحكاية التي تعتمد الأصوات ( بِنجامين اختار المغنين الثلاثة قبل أن يشرع في التأليف) نظرت إلى الحدث من منظور معاصر لنا، في الموسيقى والغناء.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram