TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > لماذا تهتم الولايات المتحدة بـ"البرهة" السياسية دون نتائجها..؟

لماذا تهتم الولايات المتحدة بـ"البرهة" السياسية دون نتائجها..؟

نشر في: 23 أغسطس, 2014: 09:01 م

لأسباب لا عدّ لها، أو هي بدرجة من التشوش لطابع بعضها السري، أو لضعف قدرتنا على ادراك الحقيقة والتقاط ملامحها، مما يحيط بنا من مشاهد، لا نستطيع أن نتجاوز حقيقة أن الولايات المتحدة، أو كل الدول الكبرى، ليست "كلية القدرة" في حل اصعب المهام، وإيجاد المخا

لأسباب لا عدّ لها، أو هي بدرجة من التشوش لطابع بعضها السري، أو لضعف قدرتنا على ادراك الحقيقة والتقاط ملامحها، مما يحيط بنا من مشاهد، لا نستطيع أن نتجاوز حقيقة أن الولايات المتحدة، أو كل الدول الكبرى، ليست "كلية القدرة" في حل اصعب المهام، وإيجاد المخارج المعقدة لها. لكن هذا الاستنتاج لا يتطابق في وعينا مع التقييم المتداول للدول الموازية من حيث المقاربات في مستوى التقدم، في آسيا أو في جنوب شرق آسيا أو في الهند، وحتى في دولة عظمى بمعايير الثروة والسكان والناتج القومي وغزو الفضاء وامتلاك الطاقة الذرية، مثل الصين.
لعل تفسير هذا الوعي الزائف يرتبط بما كابدناه تاريخياً من سيطرة بعض هذه البلدان واحساسنا بتماثل الاخريات معها بمستويات متفاوتة، من حيث الدعم السياسي أو التعاطف باي شكل كان، أو التحالف والتشارك في السيطرة على العالم بـ"العولمة المتوحشة"، في ظروف تاريخية معينة، وفي إطار تحالفات دولية، سياسية او اقتصادية او عسكرية.

وليس ثمة شك بأن للسينما والتلفزيون والوسائل المتعددة والمتنوعة للتواصل الثقافي والمعلوماتي، دوراً في تمثُّلِنا لهذا الوعي الزائف بصوره وتعبيراته المختلفة. وهو ايضاً مرتبطٌ بخيباتنا التي لم تنقطع، مع توالي الانظمة والحكام، وتعلقنا بخشبة انقاذٍ مما نحن فيه، حتى وان كانت الخشبة في واقع الحال، كومة من فضلات البحر، أو الزبد المتعفن الذي اتخذ شكل خشبة عائمة.
قد يبدو هذا المدخل، بل الموضوع نفسه، ملتبساً، وربما بدا ان لا هدف له غير الاساءة للدولة العظمى أو الدول التي تشاركنا مصيبتنا في مواجهة ارهابٍ تكفيريٍ لا دين ولا مذهب ولا قيم له، يرتدي لبوس عوالم تهاوت منذ قرون، فيستعير سيفها وصولجانها ولسانها، لينشر عاهاتٍ عافتها امته نفسها، من شدة وطأتها ورذائلها ودونيتها مقارنة بالقيم والمفاهيم الإنسانية.
قد يُنتج وعينا الزائف مثل هذا السبب، في مناوشة هذه الدول، وترحيل فشلنا وخمولنا وتخلفنا عليها، فنمتطي "ناقة التآمر" من الآخر علينا، كلما عجزنا عن اعتماد إرادتنا ومداركنا العقلية، وما تتطلبه من حكمة وسوية ورجاحة منطق، في معالجة ما نواجه من إشكالياتٍ وخطايا تتهدد حاضرنا ومستقبلنا.
ولكن ليس هذا هو السبب، ضمن هذا السياق، في معاينة مشهدٍ معاش في حياتنا السياسية الراهنة، وهو استمرارٌ لتراكمٍ من الخيبات التي عشناها في العراق الجديد، منذ الامل الذي بان مع اسقاط الدكتاتورية بصيغتها المستبدة عام ٢٠٠٣، وانطفائها تدريجياً مع اعلان الاحتلال وهيمنة سلطته المدنية على تقرير وجهة تشكيل وتطور "العراق الجديد". وانما يكمن السبب في صياغة الحلول والاساليب التي اعتمدت وما تزال من قبل البيت الابيض لما واجهناه ونتعرض له من تحديات وخسائر وفشل.
لا يغير من الواقع، ان القرارات والقرارات البديلة، اتخذت من قبل قيادات تعاقبت على البيت الابيض، ولكل منها منهج في الحكم على سير الامور في السياسة الخارجية يختلف عن سابقتها.
فالرئيس الجمهوري بوش الابن، اعلن الحرب وسيلة "لتحرير العراق" وإن صيّره بعد حين "احتلالاً"، واعقبه الرئيس الديمقراطي باراك اوباما، ليقلب السياسة رأساً على عَقِب، دون أن يُراجع تبعات الاخطاء المرتَكبة من الادارة السابقة، ويفكك شفرتها السرية، ليتسنى معالجتها باقل ما يمكن من الخسائر والتضحيات، التي يدفعها العراقيون.إذ"ركّز" على البرهة الراهنة من اجندته الرئاسية، وعلى تحقيق مكسبٍ آني، دون الاخذ بالتبعات، لا على امن بلاده القومي، ولا على العراق والمنطقة بطبيعة الحال. كانت تلك "البرهة" شكلياً، مهمة للعراقيين، اذ شكلت غطاء للانسحاب الاميركي وانهاء الاحتلال. وبمعنىً "شكلي ساذج" اعادت الى العراق السيادة والاستقلال، وان ظل تحت مفاعيل الفصل السابع من الميثاق الاممي. لقد حققت سياسة "البرهة" في سياقاتها وتبعاتها، انتصاراً لسيد البيت الابيض، لكنها كانت، كما تكون عليه في العادة سياسة "البرهة" دون حساباتٍ دقيقة، عقاباً للعراقيين الذين باتوا مكشوفين أمام شبحين متراقصين في المشهد العراقي، الإرهاب والفوضى والخرائب من جانب، وظِل مهووسٍ بالسلطة، متخفٍ وراء منجزٍ شكلي كاذب عنوانه السيادة، وتدابير استعراضية لتكريس سلطة الدولة والقانون، للفرد المتشدق، وليس لمؤسسات دولة القانون والحريات وحقوق الانسان، ولكل ما يجعل من العراق، عراقاً جديداً.
كان دبلوماسيو السفارة الاميركية ببغداد واجهزتها المتعددة المخابراتية في حالة استنفارٍ قصوى، لتشكيل الصورة الزائفة "للبرهة" السياسية التي ارادها اوباما، كما لو انها نموذج انتصارٍ للدولة العظمى. ولم يكن مهماً لهذا الحشد من القوى الدبلوماسية والعسكرية الاميركية، التوقف من باب الاحتمال امام العواقب الممكنة على الصعيدين العراقي والأميركي، لتنفيذ ما تتطلبه هذه البرهة المقتطعة عن سياقاتها الموضوعية، وظروفها الذاتية العراقية.
وأذكر من بين مفارقات سياسة "البرهة" في الستراتيجية الاميركية، ما تصرفت به دبلوماسية واشنطن بلا حكمة، في إيجاد مخرج للازمة التي ترتبت على نتائج الانتخابات النيابية عام ٢٠١٠، وفوز القائمة العراقية برئاسة اياد علاوي، ككتلة انتخابية اكبر، والمناكفات التي ارتبطت بذلك. فبعد ان تعذر تكليف رئيس القائمة بتشكيل الوزارة، لأن أكثرية قائمته "انتخابية"، وليست برلمانية، كما ينص على ذلك الدستور، وفسرته المحكمة الاتحادية، وحاول السيد "الماضي" الانقلاب عليه في الدورة البرلمانية الحالية، فقدت دبلوماسية السفارة الأميركية توازنها وضاعت بوصلتها، ولم تجد من مخرجٍ سوى إعادة ترتيب خياراتها على ان تجد حلاً للبرهة التي تحقق فيها الانتصار. فتحولت الى المطالبة بانسحاب الرئيس جلال طالباني من الترشح واحلال الدكتور علاوي في موقعه باعتباره رئيس القائمة الانتخابية الأكثر عدداً! وقد كان من ضمن "حق" علاوي تكليفه بتشكيل الحكومة، لا لأنه صاحب القائمة الفائزة عددياً وحسب، بل لأنه شيعيٍ أيضاً، والمنصب وفق سياقات العملية السياسية، للمكون الأكبر سكانياً.
المفارقة الملفتة، وبعد جهدٍ مكثفٍ لم ينقطع طوال أشهرٍ من قبل طاقم السفارة الاميركية، بدبلوماسييها ومخابراتها، ومريديها المنتشرين في متاهات العملية السياسية، والاتصالات المتعددة بجميع القادة التي كان يجريها نائب الرئيس جو بايدن، أن الرئيس اوباما اتصل بالرئيس جلال طالباني، ليسأله بعد مقدمة تفيض بالاحترام والتبجيل، الانسحاب من الترشيح للرئاسة وتركها للدكتور علاوي. ومن شدّة المفاجأة وغرابتها من رئيس دولة عظمى، لابد انه صار على علمٍ بتفاصيل الاتصالات وما نتج عنها، انه لم يكن على علمٍ بأن مثل هذا التدبير للرئاسات الثلاث وتوزيعها، يشكل "إقصاء للمكون السني"، اذ يُصبح رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء من المكون الشيعي، ورئيس البرلمان من المكون الكردي!
وحين سأله الرئيس مام جلال: وماذا عن موقع السنة "مستر بريزيدنت"؟ جاء الرد محيّراً حين أجاب: آسف ايها السيد الرئيس، يبدو ان الموضوع اعقد من أن يُعالج تلفونياً..!
سياسة "البرهة" التي سيطرت على مواقف الدبلوماسية الاميركية لحظتها، كانت تريد بأي ثمن دون البحث في العواقب، ان تتشكل الحكومة، وليصُبح المالكي رئيساً لها، بعد ان اعاد تشكيل صورته مندوب البيت الأبيض، ليتطابق مع ما ترغب به القيادة الاميركية .
"البرهة السياسية" الآن، بعد تكليف السيد العبادي، تريد ان تتشكل الحكومة بالكيفية الممكنة، ويتم اعلانها دون تأخير لدواعي التفاهم والتوافق على مسارات الخروج الجدي من حزمة الازمات المستدامة، وإمكانية اعادة انتاجها، ولو باقل الاحتمالات المفترضة "تمنياً أو واقعاً"..
وهذه "البرهة" إذا ما امعنا النظر في كل ما مر بنا منذ ٢٠٠٣ حتى الآن، كانت سيدة الموقف، ومربط الفرس في السياسة الاميركية. اما اذا اردنا تقييم "القدرة الكلية "للدولة العظمى وحليفاتها الاوربيات، من زاوية المساعدة في اعادة بناء دولتنا المتضعضعة، ليس بمعزل عن نزعات "البرهة"، فيكفي ان نتأمل حال الامن عندنا، وحزمة الاخفاقات في انعدام الكهرباء والبنى التحتية، والشبكة المتتابعة من اسباب الخدمات الحيوية، ناهيك عن الفساد والفوضى. وقد يتلخص هذا العجز الملفت للمساعدة رغم ان لدينا الاموال اللازمة التي تبددت ملياراتها خلال السنوات العشر الماضية، في سؤال مواطن بريء: الا تستطيع اميركا حقاً اقامة شبكة الكهرباء لنا في غضون شهر واحد، ونحن لا نشكل مساحة ولاية فيها، ام انها مؤامرة امبريالية..؟!
كينونة "البرهة" كما تابعتها، تعكس نزعة فرض الإرادة الذاتية، كما يُراد للوضع الملموس ان يكون عليه. فالدبلوماسي القادم بمهمة محددة ملموسة، وزملاؤه المقيمون، يأتي لا برغبة دراسة الواقع وجمع المعطيات الملموسة وتحليلها، ليرسم على ضوئها خارطة طريق، بل ليشكلها عبثاً، وفقاً لما رسم له في الغرف المعزولة، فالبرهة تجليات لحزمة إسقاط ذاتي لا علاقة لها بالواقع الحي، المتحرك والمتغير.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. آريين آمد

    لم ينجح العقل العراقي من تطوير لغة تكون قادرة على فهم الطريقة التي تفكر بها الامريكان، ودائما نحن نفكر في وادي وهم يفكرون في واد اخر، ولا ادري متى يدرك سياسيو الصدفة ان البرهة تجليات لحزمة إسقاط ذاتي لا علاقة لها بالواقع الحي، المتحرك والمتغير،كما يقول فخ

يحدث الآن

بالحوارِ أم بـ"قواتِ النخبة".. كيف تمنعُ بغدادُ الفصائلَ من تنفيذِ المخططِ الإسرائيلي؟

تحديات بيئية في بغداد بسبب انتشار النفايات

العراق بحاجة لتحسين بيئته الاستثمارية لجلب شركات عالمية

الكشف عن تورط شبكة بتجارة الأعضاء البشرية

مركز حقوقي: نسبة العنف الأسري على الفتيات 73 % والذكور 27 %

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram