يدعونا أول خطاب لرئيس الوزراء المكلف د. حيدر العبادي إلى شيء من التفاؤل، وكنا توقفنا عند نقاط كثيرة فيه، وما تأكيده على وجوب ان يكون السلاح بيد الدولة إلا بداية موفقة في الشروع بالمعالجة، ففي ذلك تكمن قضية استرداد هيبة الدولة، لكن نلفت انتباهه في اطار "هيبة الدولة" إلى قول احدهم، بأنَّ بعض النار من مستصغر الشرر.
لا أعلم مثلما لا يعلم سواي الصعوبة أو الإعجاز، في ان تقوم دائرة الماء بمعالجة حفرة ناجمة عن انكسار في احد أنابيب الإسالة بشارع فرعي، ومن ثم دفنها لتأتي دائرة البلدية وتسوي الحفرة التي أحدثتها أعمال الصيانة وليعود التبليط بالأسفلت المحلي الوفير كما أرادت له الناس. قد يبدو الحديث في أمر(تافه)كهذا سخيفا، بطراً فكرياً كما يحلو للبعض تصوره، في زمن تحارب فيه الدولة العراقية الإرهاب المتمثل بداعش وأخواتها. لكننا نقول بأن الذي ساهم بدخول داعش لمدننا ووصولنا إلى ما نحن عليه اليوم هو هذا الذي لا يقل سخفا وبطراً عن معالجة حفرة صغيرة في شارع فرعي. بإهمال الحفرة هذه يكمن ضعف وهوان الدولة.
تدخل مركزاً للشرطة محاولا الإفراج عن ابنك العائد من بيت عمّه القريب، بعد أن احتجزه شرطي، يعلم الله كم تعاطى من الحبوب المنومة، كم رسالة أرسل لصاحبته عبر هاتفه الجوال في نوبته الليلية، لكنك لن تخلّصه من قبضتهم إلا بالتوسط والتقبيل أو الدفع إن كنت لا تعرف أحداً من كبار الضباط. تزور مدرسته (ابنك) للبحث عن سبيل في تدنّي درجاته، فتشمئز نفسك من هيئة مدير المدرسة، بلحيته غير المعتنى بها، ببنطلونه المنسرح تحت كرشه. وحين تبحث معه عن آلية لمعالجة ما، تجده رجلا من أعمال ما قبل سقوط بغداد على يد المغول. تخرج يائساً، برما، محبطاً فيصطدم وجهك بعشرات العربات والستوتات والجنابر والبسطيات وباعة البطيخ الأحمر والأصفر والطماطم والبصل والبطاطا وقد سدوا عليك الطريق، كل ينادي عبر مكبرة للصوت على بضاعته، فتختلط عليك صورة مدير المدرسة مع صورة البقال والحداد وسائق الستوتة. أنت في شارع مضطرب مشوّه. وهذا يؤشر هوان وضعف الدولة.
يحضر قائمقام البلدة التي تسكن فيها عشرات الاجتماعات مع الحكومة المحلية ويجلس إلى لصق المحافظ ورئيس المجلس ورئيس اللجنة الفلانية، لكن الجرافات تظل تجهز على آلاف الدوانم الزراعية، وتطمر مئات الأنهار والسواقي وتزيح ملايين الاشجار المثمرة والمعمرة، وتنتشر العشوائيات وبيوت البلوك مثل دمامل وبثور داخل القرى الفقيرة، وتتحول الأنهار النظيفة إلى مجاري للصرف الصحي، فتشح الكهرباء الشحيحة أصلا وتنعدم الطرق، وتنشب نيران الخلافات والمنازعات لأن المالك قُتل بسبب من ديون وسرقات وتزوير، ولأن ورثته لا يعترفون بتواقيعه غير المدونة في سجلات دائرة الطابو. وحين تبحث عن سبب تجد أن الحكومة التي سمحت لهم بالبيع والشراء هي من يقف وراء المشاكل التي يعاني منها السكان هناك. هنا تهون وتضعف الدولة.
في ظهيرة يوم قائض، انقطعت الكهرباء فيه، بسبب الحمولات العالية الناتجة عن كثرة البيوت المستحدثة في قريتك، تسمع صوت إطلاق نار، فقد تشاجر احدهم مع جيرانه، فتعجب ألا يمكن ان تحل منازعات القوم إلا ببندقية الكلاشنكوف، فتتذكر انك تملك بندقيتين، واحدة لك وثانية لابنك مع خراطيش كثيرة، وفجأة ترن في اذنك أصوات إطلاقات الدوشكة الأحادية التي ظلت تلعلع سبعة أيام بلياليها في فاتحة الشيخ فلان الفلاني الذي نزح مع خمسة عشر أسرة من أبناء عمومته من أهوار العمارة وسكنوا قرب القصر، على شط العرب. كان عدد من قادة الشرطة والضباط والمسؤولين قد حضروا مجلس العزاء، ويحضرون إلى اليوم وتسمع الشرطة كلها أصوات إطلاق النار في مناسبة وغير مناسبة لكنهم لا يأبهون. هنا تهون وتضعف الدولة .
ما لم تبدأ حكومة رئيس الوزراء الجديد بمعالجة ما يبدو صغيرا من أمور وحاجات الناس لن تتمكن من إحراز اي تقدم في عملها ولتكن معالجة نفوس الناس في الشارع والبيت والسوق والمدرسة الدائرة اول أعمالها.
مستصغر الشرر في هيبة
[post-views]
نشر في: 26 أغسطس, 2014: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 3
ملاك
دفة ملاحظة هذا الأمر جدا صحيحة ومهمة ولكن انا على يقين بأنه لو تعرض أي من هؤلاء المتجاوزين لأي ردع من سلطة رسمية لخرج الكاتب ذاته بذم هذه الأجراءات وكما يشاع هذه الايام استخدام عبارة(خطية)على كل متجاوز أو (الدولة ماكدرت الا على هالمساكين)!! مستصغر الشرر
ابو اثير
سيدي البصراوي الكريم .. لايوجد أي أمل يبشر ويوعد,بالخير وارجو ان لا تعتبرني متشائما سوداويا .. لأن من يجرب حكم حزب الدعوة منذ عشرة سنوات حكم فيها العراق ولحد الآن ولم يقدم ما يمكن لمواطن ان يتفائل به فهو محكوم بالفشل والخذلان . واما عن خطبة السيد العبادي
محمد توفيق
خلت العمارة وأهوارها والناصرية من أهلها لأنهم نزحوا للبصرة التي غدت مباحة لهم. نفوس البصرة قبل 2003 كانت المليون أو أقل أما الآن فمليونين ونصف . من أين أتوا؟ بالتأكيد من تلك المحافظات الجارة التي لاتقل غنى عن البصرة. عدا ذلك نرى أن طغيان اهل العمارة والنا