استعير هذا العنوان من تعليق كتبته السيدة منال شاكر على مقالي السابق الذي كنت أحث فيه على تأمين شروط التغيير الحكومي الذي طالما انتظره العراقيون، لهفةً منهم لبارقة أملٍ، ينفضون فيها عن حياتهم الشائمة ما لحق بها من مصائب، ويسدلون الستار على الماضي البع
أكانت السيدة، وهي تعلق، ترى في ما اكتبه هو الآخر ترفاً أو "زائدةً" لا لزوم لها، إن لم يكن مجرد ثرثرة يراد بها التنفيس والترويح عن الذات المكظومة المهمومة، بما هي عليه، وملايين العراقيين من ضيم وأسرٍ وتعبٍ إنساني، ليس بمعزل عن خيبتنا، نحن جيل الزمن الذي ضاع فيه الأمل، وتتالت بصحبته الهزائم المتلاحقة من حولنا، حتى ضاعت من الرؤيا معالم الطريق، وتفرق تحت جنح الخذلان شملنا، لتتبدد في نهاية الطريق عزائم الكثرة منا، بعد ان ضاعت منهم بوصلة الدروب الشائكة..؟!
واذا كانت قارئة من جيلنا، كما يبدو من تاريخ ميلادها، تتعثر بالخيبة، وتتأفف من ضجيج الخطب والشعارات والكلام المُرسَل دون نتيجة ملموسة، تعرف أن ذلك بات بضاعة بائرة، يتاجر بها السياسي، مع أنه لا يحتاجها لما عُرف عنه من تلاعبٍ وغشٍ ومهارةٍ واستعدادٍ فطريٍ لتحويل الوطن بقَضّه وقَضيضِه، إلى خردة يعرضها على قارعة الطريق داخل الحدود وخارجها، بلا حياء، بأي ثمن بخس، فإن بعض القراء، ممن لوثتهم ثقافة التعالي القومي والطائفية واللاتسامح، يتبرمون دون أن يبذلوا جهداً لتجاوز ضياعهم في متاهات التبعية لهوياتهم الفرعية، أو يحاول البعض الأكثر وعياً منهم، اعادة النظر باصطفافهم دون رويةٍ أو تمحيصٍ ونقد للماضي الذي كان المسؤول عن العيب الذي وجدنا انفسنا، كوطنٍ وشعبٍ مضامٍ، فيه. واذ يتحول مجرى الاحداث، ويبان الخيط الاسود من الابيض، ويتنادى أهل البيعة لولايتين مأزومتين، انهما أصل البيئة الفاسدة التي تمخضت عنها الخرائب، ولا ولاية بعدها، إلا اذا كان المُراد منها "دفن" البصرة بعد خرابها، فإن تلك الفئة الضالة التي سممت بيئة التآخي الوطني، تتحول هي أيضاً في الظرف الجديد، ولكن بنحوٍ تزداد في سماته ريح الكراهية والتعالي والفتنة الذميمة.
إن احدهم، وهو عينة من الكراهية للآخر، أياً كانت هويته، وقد يكون من ابناء ملته، يشعر بالاستفزاز، ويتملكه الحنق، لمجرد التعبير عن إحساسٍ بالقلق ودعوة لرفع الحيف عن مكون من الطيف العراقي، ليس هذا فحسب، بل يشتعل غيضاً من طلب تحقيق عدالة في توزيع المسؤولية والثروات والصلاحيات، ويتصرف كما لو أنه ولي أمر الوطن، وصاحب الحق المطلق فيه واليد الطولى في الحل والربط، والأمر والنهي.
هذه هي تماماً، بعض من انعكاسات صيحة "ما ننطيها"، ودعوة "ولي الدم بالدم"، وصاحب نعت "فقاعة" لتسفيه رأي من يرى له الحق في طلب رفع الضيم وتحقيق الشراكة في تقرير مصائر البلاد. انها حصيلة ولايتين من اشاعة ثقافة "الأنوية" والاستزلام واغتصاب السلطة والتعالي على الآخر، وتعميم الفساد والضِعة في الاسترحام والولاء والانحياز والتجبر. ولم تكن ثمة نتيجة لهذه السياسة المتخاذلة إزاء الارهاب وداعش والفساد، سوى انتاج ثقافة الكراهية ورفض الآخر، واعتباره "ضيفاً ثقيلاً"، بل وأكثر من ذلك "عالةً على العراق والعراقيين"!
بهذه الروحية، التي هي في تاريخ الأمم والشعوب دلالة على التراجع والانتكاس في القيم والمفاهيم الإنسانية، جرى تلقين المتعلمين من الأنصار والمريدين وتربيتهم على تقييم مكانة بني جلدتهم وشركائهم في الوطن الواحد، كتعبيرٍ عن جهالةٍ وضعة في النظر الى الأقوام والامم، حتى وهي تتشارك في وطن واحد.
ومن وجهة نظر هؤلاء، فإن الكردي، متعدٍ يعيش من خيراتٍ ليست له، والسني أقلية متطفلةٌ حكمت البلاد عشرات القرون ولا يريد الانفكاك عن إحساسه كحاكمٍ وولي أمر. ويتجاوز هؤلاء حاملي الهويات الأخرى، ليرفضوا الشيعي المختلف، المطالب بضمانة أن لا يصبح الشيعي الذي ظل مقهوراً لقرون، قاهراً تمثله فئة باغية فاسدة لا مرام لها غير الإفساد في الارض ونهب المال العام واغتصاب السلطة.
تعليق السيدة القارئة منال جاء على مقالي الذي أدعو فيه التحالف الوطني والسيد حيدر العبادي، رغبةً في انجاح الحكومة المنتظرة، الى صياغة برنامجٍ حكومي يستوعب المطالب المشروعة "الدستورية" للفرقاء المطلوب منهم المساهمة النشيطة في حكومة الطيف الوطني الشامل.
ودعوتي ليست مجرد كلام أو خطاب استهلاكي، وانما هي انعكاسٌ لتجربة مديدة مريرةٍ، انطلقت من مبدأ أن "العقد شريعة المتعاقدين"، ومع ذلك تبدد مفعول العقد، قبل ان يجف الحبر على الورق!
فاذا كان مثل هذا العقد، بالبنود والتفاصيل والشهود، قد أبرم قبل اربع سنوات، وانتهى الى ما يُشبه "احتضار وطن"، فكيف يمكن الرضى بتغييرٍ مرتجى يُمرر بكلام يمكن ان يطلق على عواهنه، دون ضماناتٍ ولا شهودٍ، ولا التزامٍ يجسده عقدٌ خاضع لتصويت مجلس النواب؟
قبل اربعة اعوام استمر الحوار والجدل وتبادل الاوراق والمطالب والوثائق سبعة أشهر، وانتهى بما سُمي بـ"اتفاقية اربيل" التي شهد عليها السفير الاميركي وممثل الامين العام للامم المتحدة واطراف أخرى، وكان ما كان من سواد الوجه وسخام النتيجة!
واليوم اذا كان السيد العبادي محرجاً من ضغوطٍ تمنعه من التعاطي مع المطالبات التي قد يراها "صعبة" فامامه خيار سهلٌ لا يكلفه ضياع وقت أو ملامة لائم.. فما عليه سوى اعلان الالتزام بما وقع عليه جميع الفرقاء، فيما عُرف باتفاقية اربيل عام ٢٠١٠، ويمكن ان يعلن ايضاً مراعاة ما وقع عليه سماحة السيد مقتدى الصدر والسادة مسعود بارزاني واياد علاوي وأسامة النجيفي، في مداولات اربيل والنجف.
ان مهمة ترقى الى مستوى التحديات والمخاطر التي تتهدد العراق وشعبه، جديرة ببرنامج طلب ثقة من البرلمان، يضّيق من مساحة الشك والحساسية وانعدام الثقة، بين عهدين، وتغييرٍ طال انتظاره..!