أخطر اللحظات التي يعيشها المتحاربون في مواجهة عرقية أو طائفية، هي لحظة إحصاء القتلى، حيث يبدأ الناس بالسباق، أيهم أكثر تعرضا للذبح! هنا ننسى القتل نفسه وننشغل بالأعداد والأرقام. من في عنقه دم أكثر؟ وكأننا نجهز فاتورة كهرباء أو بضائع عادية. والأمر ينطوي على محاولة"تخفيف ذنب"لمن في عنقه دم أقل، أو طلب سماح له، لأنه ببساطة لم يقتل ألفاً بل قتل مئتين فقط!
إنها أخطر اللحظات لأن"العائلتين"المتقاتلتين لا تسارعان إلى التساؤل الجوهري: هل يستحق الأمر ان نتقاتل وتتضاعف أراملنا وإيتامنا؟، بل ينشغل الناس بسؤال: من أصبح لديه أرامل وأيتام أكثر، نحن أم أنتم. من هو المجرم الصغير ومن هو الشرير الكبير؟
وهاكم قاعدة أخرى سيئة. إذ يفترض ان يفرح المرء في الحروب حين يرى جبهة خصمه منقسمة. إلا في الحرب الطائفية،فالأشرار الكبار يحبون رؤية خصمهم موحدا لكي يمتلكوا الحق بإبادته الشاملة، دون ان يبقى له ذكر.
لا تفرح داعش حين ترى شيعيا ينادي بالإصلاحات ويعارض الحرب وينتقد سياسات الحكومة. فهي تريد الشيعة كلهم نسخة من واثق البطاط (رجل الدين المغمور الذي يتكلم عن إبادة السنة). وكذلك فإن أمثال البطاط لا يفرحون حين يرون أثيل النجيفي معارضا لتنظيم داعش، وأن عوائل مهمة في أطراف تكريت والضلوعية والأنبار، تخوض منذ شهرين حربا ضروسا مع الإرهاب وتؤمن بالدولة ولا تطالب إلا بتأمين حقوقها.
في مجزرة مصعب بن عمير المؤسفة كان بعض المتحدثين السنة يتماثلون مع الشيعي واثق البطاط، في أحلامه الفاسدة. فهؤلاء أرادوا تناسي أي موقف شيعي معتدل وراحوا يجعلون كل الشيعة مجرمين بحق السنة.
وفي لحظات الحديث عن مجزرة سبايكر المؤلمة كان هناك قادة رأي عام شيعة، يتماثلون مع قادة داعش في أحلامهم وعنادهم، فلم يتذكروا عوائل صلاح الدين والأنبار التي تقاتل الإرهاب منذ سنوات وتقدم تضحيات رهيبة، وراحوا يتذكرون فقط ان ضحايا سبايكر شيعة قتلتهم داعش بالتعاون مع أطراف سنية.
هنا يحاول المناخ السائد ان ينسى الضحايا الشيعة الذين قتلتهم الميليشيات الشيعية. وينسى الضحايا السنة الذين قتلتهم الجماعات المسلحة السنية. وهنا ندخل مرحلة خطر جديدة حين نريد ان نتذكر من قتله"الغريب"وننسى من قتله"القريب"، مع ان الأساس الفاسد للنزاع لا ينتمي لطائفة، بل ينتمي لشريعة القتل والإيمان بالموت كحل، وهذه شريعة عابرة للطوائف والتقسيمات.
ومن القواعد الأخرى في هذه النزاعات الداخلية، تلك التي تتصل بداخل الطائفة وخارجها. ففي المواجهة الطائفية خطران، مجنون من خارج الطائفة يجلب لها الموت، ومجنون داخل الطائفة لا يريد للحرب ان تتوقف. وفي الغالب ننتبه للأول، بينما نهمل الثاني الذي ربما كان أخطر، لأنه يقوم بتوريط الطائفة من الداخل، في القتل والتعرض للقتل، ويقلل فرص الحكمة، ويمنح الآخرين فرصة أن يحشدوا ضد الجماعة.
إن"مجنون الطائفة"هو الذي يبدع القواعد مارة الذكر، ويسرف في استخدامها، لأنه يعيش كابوسا واحدا إذ لا يخشى شيئا قدر خشيته انتهاء النزاع. فهو لا يمتلك بيتا ولا مجدا بعيدا عن ميدان القتال. والمفارقة ان المعتاش على الموت هذا، لا يموت، بل يصمم خططاً تضمن استمرار فقدان الآخرين لحياتهم.
إنها في النهاية جزء من قواعد تستخدم في كل النزاعات، لكن خطرها أكثر في الصراع الداخلي، حيث لا حدود ولا جيوش فاصلة، بل وطن يتمزق في كل دار، وثكالى يطلقن نواحهنّ من كل البيوت، وظروف تجبر الحكيم على الصمت، وتمنح المنصات للمجانين، ونزوح يجلي عن البلاد أجمل أهلها، ونظام أخلاقي يتآكل. لكنها أيضا فرصة نادرة للتعرف على أنفسنا ومراقبتها، ومحاولة أن نفهم من جديد مثل تلميذ صغير في الحياة: كيف لنا أن نبدأ بفهم أكثر واقعية للظلم، والعدالة، لنلتحق بعالم متحضر ولا نبقى داخل"حفل القصابين"؟
وللطائفة قواعد في حربها
[post-views]
نشر في: 27 أغسطس, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 2
أم محمد
سلامي لك أستاذي ما اجمل قلمك بارك الله فيك
وسام يوسف
كلام يشرح حالة القتل العبثي المتقصد من بعض الذين فقدوا إنسانيتهم بقصد و إصرار ومع الأسف فهؤلاء هم حكام البلد أنفسهم. أتمنى ان يفهمه الساسة وتتحرك عندهم الغيرة لأحداث التغيير في أنفسهم حتى يستطيعون نقلها للشعب المنكوب وأهمها مباديء العدالة و الانسانية الأخ