نقول في العادة (قانون الجمال الإغريقي)، فقد تعلمتْ ثقافتنا العربية الحديثة قوانين الجمال، في فنّي الرسم والنحت، انطلاقاً من المبادئ الإغريقية وحدها، وعلى رأسها دقة المحاكاة ومتابعة مثال أعلى. وحتى في ذروة انتصار الثقافة الإسلامية كانت القوانين اليونانية، بشأن فن الرسم، حاضرة ويمكن قراءتها بصراحة ووضوح عند أخوان الصفا على سبيل المثال.
كان من الغريب، في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، أن لا تلتفت الحضارة الإسلامية إلى قوانين الجمال الآسيوية القريبة جغرافياً وروحياً إليها. أما اليوم فلا عذر في ذلك. نحن نشهد دعوات محمومة محمودة للانتباه إلى الشعر والأدب الآسيويين (وقد تكلمنا هنا في المدى عن الهايكو وجماليات الشعر اليابانيّ) لكن دون انتباه مماثل للقوانين التي ينطلق منها بالمقابل فن الرسمّ الآسيويّ. إن قواعد هذا الرسم، ولنأخذ الصينيّ لأهميته التاريخية وخصوصية حسّاسيته ومفرداته، ظلت مجهولة لدينا بالأمس كما اليوم.
نودّ تقديم (قوانين الرسم الصينيّ الستة) لقراء المدى قبل التعليق عليها. الأول: الحيوية الإيقاعية أو الإيقاع الروحيّ المُعبَّر عنه عبر حركات الحياة. الثاني: فن التعبير عن البُنى يتمّ عبر الفرشاة. الثالث: رسم الأشكال يُطابق الأشكال الطبيعية. الرابع: التوزيع المناسِب للون. الخامس: التكوين يتمّ وفق التسلسل الهرميّ للأشياء. السادس: نقل النماذج الكلاسيكية الصينية.
إذا كانت (المحاكاة) المنطلق الأول لقانون الجمال الإغريقي، فإن (الإيقاع) يبدو وكأنه منطلق قانون الجمال الصينيّ. فالحركة الحيوية لروح الفنان تتكيف مع إيقاع الأشياء، وليس مع مسعى نقلها الحرفي الدقيق بالضرورة. من حينها يكون الإيقاع الشامل للموجودات قابلا للإدراك وحقيقياً. هذا الإيقاع روحي داخليّ قبل أن يكون في الأشكال والأصوات والحركات الخارجية. إنه يظهر حالما نكون بتواصل مع نبض الحياة. لذلك، وخلافا للتصور السائد عن غياب الفنان في الفن الصينيّ (وهو التصور نفسه الذي أُسْقِط على فناني الفن الإسلاميّ)، فإن الصينيين مَنحوا العنصر الذاتيّ أهمية قصوى، وكانت شخصية الفنان من الأمور الأساسية في جميع المبادئ المذكورة. القوانين الستة تُضْمِر بأن المعنى الدقيق للأشكال وأن التوافق العميق مع الواقع هما أمران لا غنى عنهما بالنسبة لهذا الفنان، على الرغم من أن عليهما أن يأتيا بالمرتبة الثانية بالنسبة لإدراك إيقاع الحياة.
هناك ما يشابُه ظاهرياً قانون المحاكاة الإغريقي، مثل ضرورة أن يكون رسم الأشكال مطابقاً للأشكال الطبيعية. هنا نستخدم بشكل ملتبس مفردة (المطابقة) وليس فكرة (النسخة طبق الأصل)، المحاكاة الحرفية اليونانية.
لو أخذنا فن المنظر الطبيعي الصينيّ، لرأينا أن الاستمتاع بالمواقع الطبيعية الشهيرة لا يتعلق فقط بالمتعة البصرية، إنما بالمعالجة المخصوصة لعناصرها التي يستطيع حتى المبتدأ بالفن الإحساس بخصوصيتها منذ الوهلة الأولى. هذا النوع الفني يقدّم أيضاً، بشكل منهجيّ، أوصافا خطية (أي من فن الخط الصينيّ). فالكتابات المرئية وسط منظر طبيعي مرسوم تسعى لإقامة الهارمونية بين الإنسان والطبيعة، والأكثر من ذلك فهي تضع المنظر الطبيعي في المناخ الثقافيّ الصينيّ. لهذا السبب يغترف المنظر الطبيعيّ من الكوزمولوجيا الصينية (الجبل والماء)، خاصة من اختلاط المبدأين الذكوريّ والأنثويّ (اليونغ والين) المعروفين في الفلسفة الطاوية (وهو ما تناولناه في عمود سابق). المنظر الطبيعي يجسّد وحدة المبدأين: الجبل يطابق اليونغ بينما الماء يمثل مبدأ الين. لعلنا هنا أمام القانون الخامس من قوانين الجمال الصينيّ، الداعي إلى أن يقام التكوين وفق التسلسل الهرميّ للأشياء.
إن مبدأ نقل النماذج الكلاسيكية الصينية جيلاً بعد آخر، أتاح للفن الصينيّ أن يكون متسقاً، أسلوبياً، وممتداً تاريخياً. وهذا عينه ما حدث بالنسبة لفن الهايكو اليابانيّ، من دون أن يُصابا بالجمود أو بالنسْخ الممجوج للنماذج السابقة.
لماذا لا نعرف شيئاً عن قانون الجَّمال الصينيّ؟
نشر في: 29 أغسطس, 2014: 09:01 م










