الجريمة ظاهرة لا يخلو منها أي مجتمع مهما بلغ من تقدم، فالجريمة متلازمة أساسية للمجتمع، والفارق يظهر في مدى ارتفاع أو انخفاض مؤشرات الجريمة من مجتمع لآخر وفقا لتوافر الفرص المهيئة لوقوع الجريمة. وباعتبار أن الجريمة تمثل إحدى الظواهر الاجتماعية فإن كا
الجريمة ظاهرة لا يخلو منها أي مجتمع مهما بلغ من تقدم، فالجريمة متلازمة أساسية للمجتمع، والفارق يظهر في مدى ارتفاع أو انخفاض مؤشرات الجريمة من مجتمع لآخر وفقا لتوافر الفرص المهيئة لوقوع الجريمة.
وباعتبار أن الجريمة تمثل إحدى الظواهر الاجتماعية فإن كافة العناصر التي تشكل المجتمع هي التي تتحكم في مدى انتشار الجريمة أو انحسارها، وتتعدد هذه العوامل وتختلف، فمنها ما يتعلق بالتركيبة السكانية ومستوى التعليم والثقافة، ومعدلات الفقر والبطالة والمستوى الاقتصادي لأفراد المجتمع بما يحدد قدرتهم على ارتكاب جرائم ترتبط بالمال، وعلى الرغم من ذلك فإن أحد العوامل المهمة في التحكم في مؤشرات الجريمة غالبا ما يمكن إغفاله، إما لعدم القدرة على التصدي له أو لعدم الانتباه أصلا لمدى الأثر الذي يحدثه هذا العامل وهو عامل التصميم البيئي.
العوامل المتداخلة في وقوع الجريمة
نادراً ما تقع الجريمة بشكل عشوائي أوعن غير قصد، ويتطلب وقوع الجريمة وجود نيّة لدى الجاني لارتكابها، ووجود فرصة تسمح له بارتكابها، فالنية وحدها لا تكفي لوقوع الجريمة ما لم تقترن بوجود فرصة سانحة تمكّن الجاني من ارتكابها، وإن كان القانونيون يركزون في وجود الفرصة على الموقف الذي ارتكبت فيه الجريمة، أي ببحث ظروف كل جريمة على حدة، فإن علوم الوقاية من الجريمة قد قطعت شوطاً طويلاً في تحديد أيهما أكبر أثراً في وقوع الجريمة: عنصر النية والقصد الجنائي أو الفرص المهيئة لارتكابها، ووجد أن نية المجرم قد تنشأ لمجرد وجود فرصة سانحة لارتكاب الجريمة، بما يجعل من القضاء على الفرص أحد أهم الآليات التي يجب الاهتمام بها للحد من وقوع الجريمة.
المقصود بالتصميم البيئي
يقصد بالتصميم البيئي كافة العناصر المتداخلة التي يتكون منها المجتمع من حيث التشكيل المادي كالمباني ونوعيتها وتصميمها ونوعية ساكنيها والشوارع ومدى اتساعها وكفايتها لاستيعاب حركة السير بسهولة ويسر والمراكز التجارية من حيث أماكن تواجدها وقدرتها على استيعاب المتسوقين والحدائق وخريطة انتشارها ومساحاتها ونوع وسائل الترفيه التي تشملها والخدمات المختلفة كالمرافق العامة ومدى ملاءمتها للوفاء باحتياجات الجمهور، كل هذه العناصر تمثل ما يعرف بالتصميم البيئي.
مدى ارتباط الجريمة بالتصميم البيئي
تركز معظم المؤسسات الشرطية في العالم على المجرم باعتباره العامل الأهم في وقوع الجريمة، على أنه وإن كان المجرم هو محور الجريمة إلا أن الظروف التي مكنته من ارتكابها قد تصبح هي الأهم والتي لولا توافرها لما وقعت الجريمة، على أن هذا الخطأ الشائع في بعض المؤسسات الشرطية بتحليل الجرائم من وجهة نظر الخطورة الإجرامية للمجرم يمكن أن تواجه مواقف متعددة لوقوع نفس الجريمة وبنفس الأسلوب من مجرمين آخرين وقد تقع الجريمة في نفس مسرحها السابق (كتكرار سرقة فرع أحد المصارف أكثر من مرة)، وهذا ما يجعل ضرورة التوسع في تحليل الجرائم بتحليل الظروف البيئية التي ساعدت على تكرار وقوع الجريمة.
فوجود أكثر المحال التجارية بالطابق الأرضي يمكِن من اختراقه بسيارة أو سيارات، والوصول إلى الباحة الرئيسة قد يكون هو الدافع الأول لدى المجرم للإقدام على ارتكاب الجريمة، دون الوضع في الاعتبار نوعية الحراسة المكلفة بحماية المجمع التجاري ، وأن اختلاف تصميم المجمع بوجود عدد من الدرجات ترتفع أعلى من مستوى الأرض يجعل من محاولة السطو عليه بهذا الأسلوب شبه مستحيلة.
وفي سياق آخر يمكن النظر لأنماط إجرامية أخرى يوفر لها التصميم البيئي فرصاً كبيرة لوقوعها كجرائم التحرش والخطف والاغتصاب التي غالبا ما ترتكب في أماكن مظلمة أو لا تتوافر فيها درجة معقولة من الإضاءة العامة في الشوارع، مما يتيح الفرصة لارتكابها في جنح الظلام، والأمثلة على تداخل التصميم البيئي كعامل مؤثر بدرجة كبيرة في وقوع الجريمة كثيرة ولا يمكن حصرها، ولكن المؤكد أن للتصميم البيئي دوراً كبيراً في وقوع الجريمة.
ملاءمة التصميم البيئي للوقاية من الجريمة
إن الإشكالية التي يواجهها القائمون على برامج منع الجريمة هي أنه إن كان بالإمكان الأخذ في عين الاعتبار مستقبلاً مراعاة أن يكون التصميم البيئي متواكباً مع معايير معينة للحد من الجريمة فهل بالإمكان تغيير التصاميم الحالية الموجودة على أرض الواقع للحد منها؟
يتوقف الأمر على اعتماد عدد من المعايير الواجب مراعاتها في التصميم البيئي، فوجود نموذج موحد واجب التطبيق يمكن أن يستفاد منه في التصاميم المستقبلية، كما يمكن إجراء مراجعات لتحديد مدى إمكانية تعديل بعض التصاميم الحالية للتوافق إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه مع النموذج الموحد.
