حين كان الاتجاه الساخط على كل ما يمتّ للبعث، يفقد توازنه ويخلط الأوراق ويحرق الأخضر باليابس، كنا نطالب بادانة الاستبداد وتجريم نظام البعث، كمنظومة فكرية سياسية وأدوات وأساليب تنزع نحو توظيف المبادئ والقيم الفاشية بكل ما تنطوي عليه من تجليات. ورأينا
حين كان الاتجاه الساخط على كل ما يمتّ للبعث، يفقد توازنه ويخلط الأوراق ويحرق الأخضر باليابس، كنا نطالب بادانة الاستبداد وتجريم نظام البعث، كمنظومة فكرية سياسية وأدوات وأساليب تنزع نحو توظيف المبادئ والقيم الفاشية بكل ما تنطوي عليه من تجليات.
ورأينا أن "قانون اجتثاث البعث " الذي أصدره بول بريمر، بدلاً من وضعه في سياقه السياسي الصحيح، بالنص عليه كـ"قانون اجتثاث جذور الاستبداد" ووضع نظام البعث تحت طائلته، سيخلق التباساً وقلقاً في اوسع الاوساط التي كان قدر افرادها ان يولدوا ويتعايشوا في ظل نظامٍ تكرّس بقوة القمع واستخدام وسائل العنف المفرطة، وبالاغراء والتضييق على اسباب العيش والدراسة والعمل، بل والاستهداف بالتصفية بتهمة اللاانتماء الى البعث تارة، أو الخروج من صفوفه بحكم القانون تارة أخرى.
ان مئات الالاف من العراقيات والعراقيين، كانوا يُصبحون ويُمسون على الصور والمناقب المنسوبة للبعث والدكتاتور، ولم يتعرفوا منذ ولادتهم على غير تلك الصور والمناقب، والانتماء الى الحزب الحاكم ومنظماته، شرعنه "مجلس قيادة الثورة " بقوانين تحكم بالإعدام في حالات كثيرة، كما أن الانتماء كان يفتح ابواب الرزق والتوظيف والدراسة والترقيات والاعفاءات وغير ذلك من الامتيازات المغرية للمواطن "غير المسيس" وللطامحين والمجردين من خيارات الايمان بعقيدة انسانية. وكان البعث بالنسبة للمؤمنين بالنهوض القومي، والدعوات "لوحدة الامة العربية " واعادة مجدها الغابر والمشاريع التي تكرس وتعمم قيمها ومبادئها، إطاراً مغرياً وليس مجرد إيمان سطحي بدوافع طارئة. وبغض النظر عن الدوافع والاسباب والبدايات المؤسِّسَة والغايات والاهداف والنهايات الخاتمة، فإن البعث تحول في مجرى تطوره وخلال استيلائه على السلطة، واصبح رمزاً للردة "القومية والوطنية" واداة تصفية لهما، وأشاع في البيئة العربية افكار الاستبداد وقيمه، وصار عراقياً، حامل الخراب الوطني وتدمير المجتمع والدولة. ومن بين الخطايا الكبرى للبعث انه قام داخلياً بتصفية أي نزعة إصلاحية تعيد صياغة خيار وطني وقومي له على الضد من المسار الذي وضع فيه. وما تبقى من البعث، مقسوماً بين وريثيه الدوري ويونس الأحمد ظل امتداداً لإرث الماضي بكل ما انطوى عليه، متلبساً بشعار العار "عروس الثورات " (انقلاب 8 شباط 1963 الدموي) الذي شكلت هويته طوال تاريخ حكمه.
وفي مراحل التحضيرات التي سبقت إسقاط نظام البعث، بُذلت محاولات وطنية لفرز تيارٍ من بين كوادره يتبرأ من النزوع الجرائمي للبعث منذ انقلاب 1963، مع أنها كانت عاره وخزيه، وإبداء تنصلٍ مما ارتبط به كهوية وشعار عرف بـ"عروس الثورات" والانخراط الجدي في نضال الحركة الوطنية ضد النظام الدكتاتوري، لكن تلك المساعي وئدت بالتحول الدراماتيكي في نهج القيادة السورية بعد اسقاط النظام السابق، وانتهاجها سياسة مضادة للتحول في العراق، واحتضانها المنظمات الارهابية، تدريباً ودعماً وتسهيلاً لوجستياً ورعاية سياسية. ولم يكن ذلك بلا مساهمة مباشرة مما بقي من تنظيم البعث السوري. تلك المحاولة للفرز هي التي كانت وراء نحتٍ ملتوٍ للتمييز بين بعث النظام الحاكم في العراق والجماعات المناهضة له المصطفة في اطار البعث السوري. وظلت القوى والأحزاب العراقية التي انتقلت الى السلطة بعد ٢٠٠٣، تراهن على تحقيق الفرز السياسي والفكري في كيان البعث بما يستقطب العناصر الوطنية الكارهة لنهج القيادة الرسمية، فتبنت في الدستور صيغة "البعث الصدامي" تمييزاً ودعوة للانفكاك عن الماضي المدان والاستبدادي للقيادة الحاكمة.
ومنذ اللحظات الأولى لسقوط البعث ونظامه، بل حتى قبل ذلك، ساد منحىً سياسي واعلامي مشبوه، أشاع فكرة الترابط بين نظام البعث وسلطته بالمكون السني. وليس بمعزلٍ عن نزوح الآلاف من الكوادر والقيادات العسكرية والامنية ومنتسبي الاجهزة القمعية الى المدن والقصبات في المنطقة الغربية، الرمادي والفلوجة وغيرهما، وتدفق الالاف من المنظمات الإرهابية والتكفيرية "الجهادية" عبر الحدود العراقية السورية المفتوحة والبوابات الأخرى، لتأكيد فكرة ومفهوم "الترابط" بين البعث ونظامه والمكون السني ومناطقه، واعتبارها حواضن لكل المناوئين للتحول الديمقراطي في العراقي، وتحول تلك المناطق الى بؤرٍ للنشاط الارهابي المتمدد الى بغداد وسائر محافظات العراق، تنشر فيها الموت والخراب بالمفخخات والأحزمة الناسفة.
ولا يمكن التغاضي عن الدور السيئ لقانون "اجتثاث البعث" لبريمر، الذي أدى الى اثارة الفزع والقلق بين كل منتسبي البعث من غير الملطخة أيديهم بجرائمه، بل ممن لم يكونوا سوى "منتمين" وان تعددت الأسباب، وحال ذلك الى جانب اسباب اخرى، دون حدوث عملية فرزٍ يؤدي الى ظهور تيارٍ ينسلخ فعلياً عن البعث "الصدامي" وينفصل عن ماضيه إيمانياً وفكرياً وفي الانحياز الى اعتماد الديمقراطية ومفاهيمها وقيمها في العمل الوطني. وبدلاً عن ذلك تصدرت المشهد السياسي، بفضل السلطة المدنية للاحتلال وخيارات بول بريمر، مجاميع من المحسوبين على النظام السابق، وكثرة منهم يقعون تحت مساءلة قانون الاجتثاث، في الوقت الذي وقعت اعداد متزايدة من كارهي النظام السابق والمنتسبين الى حزبه بدوافع لا إيمانية، تحت طائلة المساءلة والملاحقة والتمييز والإقصاء.!
المفارقة الملفتة والتي كرست "مفهوم الترابط" الخاطئ بين البعث ونظامه والمكون السني، واهالي المنطقة الغربية، تتمثل في السياسة التي اختطتها القيادات والتنظيمات التي تسمّت وتصدرت باسم السنة، سواء في المراحل الاولى لسقوط نظام البعث، او بعد الانخراط في العملية السياسية. وقد عملت هذه القيادات بانتظام على اثارة وتبني كل ما له علاقة بالبعث، قانوناً كان أو سجناء ومعتقلين وملاحقين! واصبحت الابجدية الاثيرة لدى غالبية من هؤلاء نغمة نشاز تثير كوامن مأساوية لدى ضحايا النظام والساعين لتصحيح مسارات العملية السياسية الديمقراطية والعمل على إبعادها ولو بخطوة عن نهج المحاصصة الطائفية المقيتة.
ورغم التصدعات والانتهاكات، والسياسات المغامرة لولايتين تخريبيتين استُلتا من تاريخ العراق ومستقبل شعبه، فان قياداتٍ سنية لم تتخل عن هذا النهج الضار للمكون السني وللمسيرة العراقية. وهي لا تريد تبرئة ذمة السنة من نظام البعث وارثه وارتكاباته، بتأكيداتها الدائمة على مطلب الغاء "قانون الاجتثاث" وإنهاء "قانون المساءلة" بدلاً من فضح الكيفية الانتقائية، باعتماد دوافع طائفية وفئوية لها، وإخضاعها لسلطة القانون، ومطالبتها "بالعفو العام" دون تمييز المحكومين "حقاً وبالدليل الدامغ" بجرائم ارهابية راح ضحيتها الاف العراقيين، وتعرضت ممتلكاتهم الى التدمير والضياع. وما يدعو للاسف أن تتعدى المطالبة الاشتراطية حتى الان اطلاق سراح قيادات بعثية مشهود لها بالمساهمة في نهجه، واعادة ضباط كبار لم يجر التأكيد على تخليهم عن الولاء لعزة الدوري او للتنظيم البعثي الآخر.
إن مظالم كثيرة منهجية ارتكبها الفريق الحاكم خلال ولايتين مغرقتين بالفساد والتمييز، كان نصيب المكون السني والمناطق الغربية غير قليلٍ منها، لكن ذلك تم في سياق نحرٍ للدستور وتخريبٍ للعملية الديمقراطية وإمعانٍ في سياسة الاقصاء والتهميش، وتكريسٍ للانفراد في السلطة. وكان على القيادات التي تتسمى بتمثيل المكون السني، مع انها تدعي رفضها للطائفية وانحيازاتها، أن تعمل على خلق اصطفافٍ في مناطق نفوذها بين الأجيال الجديدة التي لا يمكن اتهامها بالانتساب او الولاء للبعث، من شأنه ان يبلور تياراً مدنياً ديمقراطياً قادراً على تعبئة سياسية تستشرف أفقاً يصبح فيه للاتجاه الوطني المناوئ للطائفية، حامل ماكن بالاسهام في إجراء تحولٍ نوعي، من دولة المكونات الفاشلة الى دولة المواطنة المدنية الواعدة.
ولا يزال هذا الخيار متاحاً لمن يؤمن حقاً بالتغيير الحقيقي..!