TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > غضب في البصرة

غضب في البصرة

نشر في: 6 سبتمبر, 2014: 09:01 م

لا يليق بالبصرة أن تطلب مناصب ووزارات على أساس أنها مدينة النفط.، لا يليق بها أن تعجز عن رؤية نفسها إلا من ثقوب النفط التي شوهت جسدها صراعات وحروبا ونزوات وألوان إهمال.
لعلي واحد من اكثر الذين يكتبون ويتحدثون عن البصرة. والأمر لا يتعلق بمجرد أهميتها، بل لأنني اعتقد ان العراقيين لا يعرفون البصرة جيداً، لا بصرة أيام زمان، ولا البصرة التي مرت عليها التقلبات والتحولات، ولا البصرة الحلوة المختبئة منذ سنوات تحت الأرض، اتقاء لشر ما يمشي على سطح الأرض، من سوء فهم وتعصب وتيه.
جزء من الإهمال الذي تتعرض له البصرة سببه عدم امتلاك الناس معرفة وافية بها، ربما لأنها بعيدة تغفو على البحر، وربما لأنها تكابر ولا تتحدث عن نفسها كثيرا، إلا حين يأتي حديث الأدب والتفلسف وانهار الجاحظ الألف. لكن جزءا من إهمال صاحب القرار للبصرة ربما يعود إلى خشيته منها. في مناسبات تاريخية مختلفة، كانت المدينة تضع العراق وراء ظهرها، مللاً من النزاعات وجور الولاة، وتتطلع جنوبا إلى البحر وسفنه التي تقصدها محملة بأخبار الدنيا وحريرها وخيولها وأغنياتها.
وهذا التطلع ربما جعل الحاكم العراقي يشعر بالخشية، فيلجأ إلى تقييد البصرة وفرصتها، كي لا تفر منه. وأتذكر الآن انطباعا حصل لدي وانا أناقش حضور البصرة في الحكومات العراقية، فدوما هناك حضور بارز للبصرة في الحكومة الأولى، يعقبه مباشرة انحسار لدورها السياسي. في حكومة عبدالرحمن النقيب ١٩٢٠ كان هناك أربعة أو خمسة وزراء من البصرة"طالب النقيب، قاسم الزهير، المنديل باشا.."، وفي الحكومة التالية غاب كل شيء تقريبا، وتكرر الأمر في حكومة بول بريمر ٢٠٠٣ حيث كان هناك أربعة وزراء من البصرة"سامي المظفر، ووائل عبد اللطيف..الخ"ثم اختفى البصاروة.
لكن لغة المطالبة بحصة في الحكومة، كانت أمرا لا يليق بالبصرة، وتألمت جدا بالمنطق السياسي حين سمعت عبارة"نحن بقرة حلوب ولدينا كل النفط، ولذلك نريد وزيرا وسفيرا أو منصبا سياديا".
الاحتجاج الغاضب مفهوم هنا، ولكن ماذا لو اختفى النفط بعد خمسين عاما، فهل ستتوقفون عن الاعتراض؟ لماذا لا تقومون بتذكير العراق ان البصرة ليست مجرد نفط، بل مصدر للخبرات البشرية المتنوعة، التي نأنس ونتعلم منها كلما زرنا المدينة، ونتمنى رؤية أمثالها داخل صالونات صناعة القرار. وهي أثرى مدن العراق قبل النفط، وتذكر أول إحصائية للإنكليز عام ١٩١٨ ان ٦٥ في المئة من عوائد العراق كانت من ضرائب تجار البصرة، بينما الموصل وبغداد وكل المدن لم تأت سوى بـ٣٥ في المئة تلك السنة.
ولحسن حظ البصرة أنها من المدن القلائل التي لا تحتاج كثيرا إلى منصب سيادي أو حتى وزارة (ولا أقول هذا لتشجيع الساسة على حرمان البصرة) فمحافظها ومجلس محافظتها لديهم وفق القانون الجديد، ميزانية دولة بحجم الأردن (٦ مليارات دولار سنويا وفق تقديرات رسمية)، وهذا ثقل سياسي سيتعزز إذا عرف البصريون كيف يحولون الفرصة إلى حقيقة تنموية، وحين يحدث في المدينة شيء جديد نفخر به، فان كل المناصب ستأتي طائعة طالبة التعلم من التجربة، التي عرفت كيف تحمي نفسها وتحقق إنجازا بدون امتلاك وزير ولا سفير.
ختاماً، ينقسم الساسة البصاروة إلى صنفين، الأول يصرخ ويتباكى على مظلومية المدينة دونما عرض لائق لقضيتها. والصنف الثاني يعمل بصمت وهدوء ونضج، يتدخل في صوغ تسويات مهمة بين بغداد وأربيل ونينوى، ويقدم مقترحات مهمة، ويحول دون وقوع كوارث، دونما ادعاء، وتواصلا مع النظام الأخلاقي الصارم الذي يعرفه البصاروة. وكمثال فحسب، كلما نظرت إلى ضياء الأسدي رئيس كتلة الأحرار وهو يقاتل ليقنع الآخرين بسياسة إصلاحية معتدلة، شعرت بأن روح البصرة"تشتغل سياسة صح".. ومثل ضياء شخصيات بصرية عديدة تلعب أدوارا بلا ادعاء، وتنسق أمورا مهمة مع الساسة الجيدين في المدن الأخرى. وعند هذه النقطة يبدأ مستقبل آخر يدركه المتعمقون ويلاحقونه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. ثائر الحلفي

    ضياء الاسدي يكمن خلفة تاريخ من التغيير نحوة الافضل يعمل بصمت كصمت ميناء البصرة فكل موانئ العالم فيها ضجة الا ميناء البصرة يعمل بصمت .تحياتي استاذسرمد

  2. محمد توفيق

    المشكلة تكمن في ولاء السياسيين للأحزاب وليس للبصرة التي سرعان ماينسحبون من وعودهم الشحيحة لها بعد انتخابهم كنواب. .. وكمثل صارخ على انعدام الغيرة البصرية عند السياسيين اني شاهدت مرة لقاءً لمحمد الطائي في قناة الفيحاء مع البصرية رحاب العبودة قبل الإنتخابات

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram