1-2
المرة الأولى التي عرفت فيها نجيب محفوظ، كان لي من العمر أربعة عشر عاماً. كانت الفترة التي بدأت فيها بقراءة كتب الشعر والروايات البوليسية، روايات الفرنسي مارسيل لابلان والتي درات كلها حول اللص الظريف آرسين لوبين وروايات آجاثا كريستي وكوميسارها هركول بوارو، روايات كما يبدو لم تعجب جارنا كاظم طوفان الذي كان يكبرني بعشر سنوات. كاظم، الشاب الذي هو من عائلة فقيرة، بيتهم كان بسيطاً مبنيا من الطين، كاظم الذي كان معروفاً بنشاطه الشيوعي اعتقل أكثر من مرة في سنوات الستينات والذي انتهى قتيلاً في معركة بيشت إيشان في كردستان العراق، كان قارئاً نهماً أيضاً رغم أن قراءته تركزت أغلبها باتجاه واحد، الماركسية وأظن ذلك ما أراد الوصول إليه معي فصبي مثلي مبتدئ بشغف بالقراءة، قراءة كتب الأدب خاصة لابد وأن يتجه بالنسبة له إلى الماركسية والانتماء إلى الحزب الشيوعي وأن أفضل وسيلة لتحقيق ذلك هي تشجيعه على قراءة كاتب مستقل لم يدُمغ بدمغة الاشتراكية علناً لكنه كاتب "واقعي" على الأقل، "تقدمي" في عرف كاظم ورفاقه الشيوعيين، لأن الجميع حتى إذا اختلفوا بتفسيره يتفقون على ميله النقدي الاجتماعي في كل الروايات التي كتبها، حتى تلك التي انتمت إلى مرحلته الأولى، لنقل "الرومانسية التاريخية" والتي ضمت ثلاث روايات تاريخية، "عبث الأقدار" (1942)، "رادوبيس" (1943)، "كفاح طيبة" (1944) كان فيها منحى نقدياً وإن غلب عليه الطابع الرومانسي. طبعاً الميل النقدي هذا بدا واضحاً بعد روايته "القاهرة الجديدة" (1945) كما في الروايات اللاحقة مثل "خان الخليلي" (1946)، "زقاق المدق" (1947)، "السراب"، (1948) ثم في "بداية ونهاية"، (1949") وقبل أن يتوجه وعيه النقدي الواقعي هذا في عمله الملحمي ثلاثية القاهرة، "بين القصرين"، (1956)، "قصر الشوق"، (1957)، "السكرية"، (1957) ليسير فيها على خطى صاحب النوبل الألماني توماس مان في علمه الخالد "آل بودينبيرغ" الذي لابد وأن يكون محفوظ قرأه مترجماً باللغة الفرنسية التي كان يجيدها. لكن ما لم يعرفه جارنا كاظم هو أن الصبي هذا سيتعلم بالذات الدرس الأول على يد محفوظ: أن يكون مستقلاً يحمل صوته الخاص، لا ينتمي إلى حزب أو جماعة. فمهما اختلفت وجهات نظر النقاد عن محفوظ إلا أنهم يتفقون على أن رواياته كانت دائماً روايات متعددة الأصوات كأن محفوظ، الذي مثله مثل أي مثقف مخلص لعصره ، لم يصغ إلى الأصوات التي ارتفعت حوله بل رحّل أيضاً تناقضاته الداخلية ، وجهات نظره إلى شخصياته وبنفس الثقل حتى عندما لم يمنحهم كلهم المساحة المتساوية لا يهم لأن بعض شخصياته تأخذ مساحة أكبر من غيرها، يبقى الأهم هو الثقل الذي تجسده كل شخصية، تأثيرها في فلك الشخصيات الأخرى، تصريحاتها. ليست هناك شخصية صغيرة وشخصية كبيرة بهذا المعنى بل هناك دور لكل شخصية عليها لعبه كما هي في الحياة لأن الرواية في النهاية مهما فعلت واخترعت من حكايات وشخصيات لا تستطيع الانفصال عن محيطها الخارجي، أقصد عن ما يحيط بها من حياة تجري حولها على الأقل لحظة كتابتها لأننا في لحظة قراءتنا للرواية لا نرى إلا حياة واحدة، تلك التي أمامنا على الورق، ولأن الحياة متعددة الأصوات لابد للرواية أن تكون متعددة الأصوات. في النهاية ليس هناك بطل مطلق يفرض نفسه علينا بل هناك أبطال والأمر متروك لنا نحن القراء المواقف التي نختارها. درس مهم كما أظن، ذلك الذي علمني إياه محفوظ، ففي بلاد تفتقد لتقاليد ديموقراطية، في بلاد لا برلمان ولا مؤسسات المدنية، الخلاصة، في بلاد يُفرض فيها الحديث بصوت واحد، صوت الديكتاتور يصبح فيها التعرف على كاتب عمله هو حياة بكل ما حوتها من تنوع واختلاف، على كاتب عمله هو مجتمع بأقطاب متعددة، لا يهم أنها تتنافر مع بعضها لكنها تحتاج بعضها أحياناً، كاتب عمله هو مجال تتحرك فيه شخصيات متناقضة لكنها تتعايش وتعيد جنباً إلى جنب كما في تركيبة العائلات التي تجسدها رواياته. التعرف على كاتب مثل هذا هو مثل العثور على كنز عظيم لابد لي من الحفاظ عليه والتزود منه. فلكي يكتب المرء رواية يوماً لابد وأن يكون ديموقراطياً في تعامله مع شخصياته وهذا ما فهمه محفوظ مبكراً.
يتبع
ثماني سنوات على رحيل نجيب محفوظ
[post-views]
نشر في: 9 سبتمبر, 2014: 09:01 م