ركـبـتُ سـيّـارتي الـصّـغـيـرة في صـبـاح يـوم مـشـمـس مـن ربـيـع 2002 وتـوجـهـت إلى مـديـنـة أجـن Agen في جـنـوب غـرب فـرنـسـا الّـتي وصـلـتـهـا بـعـد عـدّة سـاعـات. وكـان هـدف سـفـرتي زيـارة مـعـرض نـظّـمـه مـتـحـف الـفـنـون الـجـمـيـلـة في هـذه الـ
ركـبـتُ سـيّـارتي الـصّـغـيـرة في صـبـاح يـوم مـشـمـس مـن ربـيـع 2002 وتـوجـهـت إلى مـديـنـة أجـن Agen في جـنـوب غـرب فـرنـسـا الّـتي وصـلـتـهـا بـعـد عـدّة سـاعـات. وكـان هـدف سـفـرتي زيـارة مـعـرض نـظّـمـه مـتـحـف الـفـنـون الـجـمـيـلـة في هـذه الـمـديـنـة الـبـالـغـة الـصّـغـر لـمـجـمـوعـة قـطـع أثـريـة كـان قـد أهـداه إيـاهـا كـمـيـل أبـو صـوان Camille Aboussouan . وكـنـت قـد قـرأت أنّ الـمـجـمـوعـة تـحـتـوي عـلى قـطـع أثـريـة مـن بـلاد مـا بـيـن الـنّـهـريـن ، وكـان هـذا يـكـفي لـشـدّ الـرِّحـال وتـحـمّـل مـصـاعـب الـسّـفـر.
وكـانـت الـقـطـع الـمـعـروضـة تـضـمّ تـمـاثـيـل نـسـاء وحـيـوانـات وعـربـات مـصـغّـرة مـن الـطّـيـن الـمـفـخـور ، ومـسـمـار تـأسـيـس وألـواح صـلـصـال عـلـيـهـا نـصـوص بـالـكـتـابـة الـمـسـمـاريـة ، وحـلي و زجـاجـيـات وآنـيـة ، إلى جـانـب أسـلـحـة وأدوات بـرونـزيـة وقـطـع نـقـود ، تـعـود إلى فـتـرة تـتـراوح بـيـن الألـف الـرّابـع قـبـل الـمـيـلاد والـقـرن الـثّـالـث عـشـر بـعـد الـمـيـلاد.
وبـعـد أن تـأمّـلـت الـقـطـع الـمـعـروضـة وسـجّـلـت بـعـض الـمـلاحـظـات عـنـهـا ، اشتريت دلـيـل الـمـعـرض ، وهـو عـلى شـكـل كـتـاب ضـخـم واسـع الـمـقـايـيـس يـضـمّ صـوراً لأهـم قـطـع الـمـجـمـوعـة و وصـف لـهـا. وعـرفـت مـن قـراءتـه وقـراءة مـقـالات مـخـتـلـفـة كـتـبـت عـن الـمـجـمـوعـة قـصـتـهـا وقـصـة جـامـعـهـا كـمـيـل أبـو صـوان. ثـمّ شـاءت الـصّـدفـة أن أمـرّ بـمـديـنـة أجـن في شـهـر آب الـمـاضي وأنّ أزور الـقـاعـة الّـتي خـصـصـت لـهـذه الـمـجـمـوعـة ، والّـتي لـم تـكـن قـد أكـمـلـت في زيـارتي الأولى ، فـقـررت كـتـابـة هـذا الـنّـصّ الـصّـغـيـر عـنـهـا.
مـجـمـوعـة كـمـيـل أبـو صـوّان :
بـدأ أبـو صـوان حـيـاتـه الـمـهـنـيـة مـحـامـيـاً في بـيـروت ، ثـمّ اشـتـغـل في الـسّـلـك الـدّبـلـومـاسي حـتّى صـار سـفـيـراً لـلـبـنـان عـنـد مـنـظـمـة الـيـونـسـكـو . كـمـا ألّـف عـدداً مـن الـكـتـب و تـرجـم كـتـاب " الـنّـبي" لـجـبـران خـلـيـل جـبـران مـن الإنـكـلـيـزيـة إلى الـفـرنـسـيـة . وقـد أصـدر في 1945 مـجـلـة " دفـاتـر الـشّـرق Les Cahiers de l’Est " .
وكـان يـمـتـلـك مـكـتـبـة ضـخـمـة تـضـمّ كـتـبـاً نـادرة و وثـائـق مـهـمـة عـرضـهـا عـلى الـحـكـومـة الـلـبـنـانـيـة الّـتي رفـضـت شـراءهـا فـكـلّـف دار بـيـع عـالـمـيـة وجـدت لـه مـشـتـريـن تـلـقـفـوهـا بـسـرعـة. كـمـا كـان قـد كـوّن مـجـمـوعـة قـطـع أثـريـة مـن الـشّـرق الأدنى ( وخـاصـة سـوريـا ولـبـنـان والـعـراق) لا نـعـرف إلّا الـقـلـيـل عـن كـيـفـيـة جـمـعـه لـهـا وعـن الـمـكـان الـدّقـيـق الّـذي جـاءت مـنـه كـلّ قـطـعـة ، ويـعـتـقـد بـعـض مـن اهـتـمـوا بـدراسـة هـذه الـمـجـمـوعـة أنّ تـمـاثـيـل الـنّـسـاء والـحـيـوانـات والـعـربـات الـمـصـغّـرة مـن الـطّـيـن الـمـفـخـور مـثـلاً جـاءت مـن حـمـلات الـتّـنـقـيـبـات الإنـقـاذيـة عـنـد تـشـيـيـد سـدّ الـفـرات في شـرق سـوريـا ، فـقـد عـرضـت أعـداد كـبـيـرة مـنـهـا في أسـواق الأثـريـات في تـلـك الـفـتـرة.
وفي نـهـايـة حـيـاتـه قـرر كـمـيـل أبـو صـوّان أن يـهـدي مـجـمـوعـتـه هـذه إلى مـتـحـف فـرنـسي . واخـتـار في الـبـدايـة مـتـحـف مـديـنـة أوش Auch الـبـالـغـة الـصّـغـر والّـتي تـقـع في مـنـطـقـة الـجـيـرس ( جـنـوب غـرب فـرنـسـا ) . وكـانـت أمّـه الـفـرنـسـيـة قـد ولـدت في هـذه الـمـنـطـقـة. ولـكـنّـه أقـنـع في الـنّـهـايـة بـإهـدائـهـا إلى مـتـحـف أجـن .
وهـكـذا أهـدى أبـوصـوان جـزءاً مـن مـجـمـوعـتـه إلى مـتـحـف الـفـنـون الـجـمـيـلـة في مـديـنـة أجـن عـام 1998. وفي عـام 2000 أهـداه مـا تـبـقى مـنـهـا . وبـهـذا حـصـل هـذا الـمـتـحـف الـمـغـمـور عـلى أكـثـر مـن 1600 قـطـعـة أثـريـة شـرقـيـة ، مـا جـعـلـه يـقـفـز فـجـأة لـيـحـتـل الـمـرتـبـة الـثّـالـثـة بـيـن الـمـتـاحـف الـفـرنـسـيـة الّـتي تـمـتـلـك مـثـل هـذه الـقـطـع : بـعـد مـتـحـف الـلـوفـر الـبـاريـسي و مـتـحـف لـيـون.
آثـار بـلاد مـا بـيـن الـنّـهـريـن في هـذه الـمـجـمـوعـة :
أوّل مـا يـجـذب أنـظـارالـزّائـر مـسـمـار تـأسـيـس ضـخـم عـلـيـه نـصّ تـأسـيـس بـالـكـتـابـة الـمـسـمـاريـة . ولا شـكّ في أنّـه أهـمّ قـطـع هـذه الـمـجـمـوعـة. وهـو مـن الـطّـيـن الـمـفـخـور ، طـولـه 6،13 سـنـتـم. وقـطـر رأسـه 9،5 سـنـتـم. ويـذكـرالـنّـص الـمـكـتـوب عـلـيـه تـأسـيـس غـوديـا ، أمـيـر لـغـش لـمـعـبـد الإلـه نـيـن غـرسـو في الـقـرن الـثّـامـن عـشـر قـبـل الـمـيـلاد.
ونـذكّـر الـقـارئ هـنـا أنّ الـمـعـابـد الـسّـومـريـة كـانـت تـشـيّـد بـالـلـبـن وبـالـطـابـوق الـمـفـخـور ولـهـذا كـانـت تـحـتـاج إلى تـرمـيـم مـسـتـمـر وإعـادة بـنـاء . ولـكي تـتـذكّـره الأجـيـال الـتّـالـيـة ، كـان الأمـيـر أو الـمـلـك الـمـشـيّـد لـهـا يـدفـن تـحـت أبـوابـهـا وفي الـجـدران مـسـامـيـر فـخـاريـة عـلـيـهـا نـصـوص تـأسـيـس يـذكـر فـيـهـا اسـمـه. كـمـا نـذكّـر الـقـارئ أنّ الإمـبـراطـوريـة الأكّـديـة كـانـت قـد سـقـطـت في الـقـرن الـثّـامـن عـشـر قـبـل الـمـيـلاد وتـبـعـتـهـا فـتـرة مـظـلـمـة في بـلاد سـومـر. وفي نـهـايـة هـذه الـفـتـرة ، استقلت دويـلـة لـغـش . ولـكي يـثـبـت أمـيـرهـا غـوديـا أهـمـيـتـه وأهـمـيـة دويـلـتـه فـقـد شـرع في تـرمـيـم كـلّ الـمـعـابـد الـقـديـمـة وتـشـيـيـد مـعـابـد جـديـدة لـكـلّ آلـهـة الـبـلاد، وخـاصـة لِـنـيـن غـرسـو ( الّـذي يـعـني ربّ غـرسـو) حـامي مـديـنـة غـرسـو ، عـاصـمـة دويـلـتـه. وكـان الـمـعـبـد يـشـتـمـل عـلى بـنـايـات مـتـعـددة لـعـبـادة الإلـه وأفـراد عـائـلـتـه. وقـد وجـد الـمـنـقـبّـون مـئـات مـن هـذه الـمـسـامـيـر في جـدران الـمـعـبـد الـواسـع ، لا تـظـهـر مـنـهـا إلّا رؤوسـهـا.
كـمـا تـضـمّ الـمـجـمـوعـة 14 لـوحـاً مـن الـصّـلـصـال عـلـيـهـا نـصـوص مـسـمـاريـة ( رقّـمـت مـن A إلى N) درسـهـا عـالـم الآشـوريـات الـفـرنـسي دوران J.-M. DURAND وتـرجـمـهـا ، و وجـد أنّ ثـلاثـة مـنـهـا جـاءت مـن مـوقـع أور في بـلاد سـومـر. وتـتـراوح تـواريـخ مـجـمـوع الألـواح بـيـن الألـف الـثّـالـث والألـف الـثّـاني قـبـل الـمـيـلاد. وتـحـتـوى نـصـوصـهـا عـلى إحـصـاء إداري وعـقـود بـيـع وشـراء وهـبـات.
ويـذكـر دلـيـل هـذه الـمـجـمـوعـة الأثـريـة أنّ كـثـيـراً مـن الـقـطـع الـفـخـاريـة أو الـمـعـدنـيـة جـاءت مـن سـوريـا أو مـن مـنـطـقـة الـفـرات الـسّـوريـة. وهـو في الـحـقـيـقـة يـسـتـعـمـل تـقـسـيـمـات حـديـثـة لا يـعـود تـاريـخـهـا إلّا إلى نـهـايـة الـحـرب الـعـالـمـيـة الأولى ، لـيـتـكـلّـم عـن آثـار تـنـتـمي إلى حـضـارات بـلاد مـا بـيـن الـنّـهـريـن (دجـلـة والـفـرات) الـمـمـتـدة الـسّـعـة والّـتي كـانـت تـنـتـمي إلى نـفـس الـمـنـطـقـة قـبـل أن تـقـسّـم وتـخـلـق لـهـا حـدودا مـصـطـنـعـة.