عاود الأستاذ مهدي عيسى الصقر اهتمامه بالجنس والعلاقة الثنائية بين الرجل والمرأة . قدم لنا رواية " صراخ النوارس " رداً فنياً عن لواحق الحروب وما سببته من علاقة بالمحرم وكأنه الصقر ـ أطلق صرخة عبر ذلك ضد الحروب اللا إنسانية ، وكانت المرأة في "صراخ النو
عاود الأستاذ مهدي عيسى الصقر اهتمامه بالجنس والعلاقة الثنائية بين الرجل والمرأة . قدم لنا رواية " صراخ النوارس " رداً فنياً عن لواحق الحروب وما سببته من علاقة بالمحرم وكأنه الصقر ـ أطلق صرخة عبر ذلك ضد الحروب اللا إنسانية ، وكانت المرأة في "صراخ النوارس " هي الطاقة الإغرائية الهائلة التي لم يستطع الرجل / وخطابه مقاومتها وكان المحرم مباحاً سهلاً ويسيراً وخصوصا بعد عودة الزوج المعطوب من الأسر . وفي روايته الأخرى " الشاطئ الثاني " / دار المدى / دمشق / 1998/ عود للثنائية بين الرجل / المرأة ، هذه الثنائية التي كثيراً ما اهتم بها الصقر حتى في قصصه . وهو قريب جداً من الأنثى / المرأة وله موقف واضح ، فيه مناصرة لها وتضامن معها.
ولا تكاد الأنثى في الشاطئ الثاني تختلف عن المرأة في رواية "صراخ النوارس" كل منهما في محنة العلاقة وما أفضت إليه وكلاهما ينتميان للبرجوازية الصغيرة . الأنثى في رواية " الشاطئ الثاني " فقدت زوجها بحادث سيارة ، كشفت الرواية بأنه اغتيال مخطط له ، والزوج العائد من الأسر ميت جسدياً ، أصابه عطل بذكورته ، فهو ميت تماماً ، لأنه معطل عن ممارسة وظائفه الجنسية التي تحولت الى مهيمن ضاغط عليه كثيراً ، بعدما أدرك العلاقة القائمة بين أخيه الذي معهما في البيت وبين زوجته التي تركها معه بعد الأسر . لكن الفرق بين المرأة / والأنثى في رواية " الشاطئ الثاني " أن الثانية كانت طرفاً في العديد من العلاقات غير الشرعية مع رجال تعرفت عليهم في بيت للدعارة ، وسلوى الأقرب لمعطيات الحياة التي تبدّت واضحة من خلال تجاربها مع رجال استطاعت إغراء كل منهم ، ولم يستطع أحدهم مقاومة سلطتها الغريبة وسطوتها على من التقت به ، وكان الأستاذ سامي مدير الثانوية آخر الذين تعرفوا عليها بعدما زار البيت بدعوة من قريبته أم عباس . كانت سلوى [ فتاة في العشرين أو أكثر قليلاً ، بثوب أسود ، وشعر قصير ، تنحني على حنفية ماء تنتصب فوق حوض صغير وسط الدار تغسل إناء في يدها تنقطع في الحال طرطشة الماء المنهمر من الحنفية . وتعتدل الفتاة في وقفتها فيلوح جسدها ، الناحل بعض الشيء . طويلاً . أحس بها ترمقني بعينين متفحصتين ، أثناء مروري ، مخترقاً الفناء وراء الرجل الذي كان يمشي أمامي متمهلاً // ص14
سلوى قادرة على الإيقاع بمن تريد . نظرة متفحصة مكنتها من معرفة الشاب الوافد للدار والذي سيدخل وسط شليلة مربكة ولا يقوى على مغادرتها هي ، سلوى ، التي أوقعته في محيط إغرائها هي أيضاً التي أنقذته في النهاية وحررته الى الأبد من سلطة جمالها وسطوة جسدها ، حررته لأنها أحبته تماماً وأخلصت له وهو كذلك واستجاب لطلبها بالزواج ، لأنها ضجرت من دور البغيّ الذي لعبته مراراً / ـ اسمعني أنت . أنا مللت من لعب دور البغيّ ، التي تأتي في السر لزيارة عشيقها العازب ، وهي تتلفت خوفاً على سمعته . تنزل عن السرير وهي ما تزال تتكلم مفجوعة .
يخاف أن يلمحها أحد من سكان العمارة ، وهي تصعد إليه ، أو تنزل من عنده./ ص90
الصدفة وحدها قادتها الى أول منزل وظلت فيه ستة أشهر ، منحها خبرة في العلاقة مع الرجال وزودتها بطاقة استدعاء وجذب مثيرة وملفتة للانتباه ، هذا ما حصل مع الأستاذ سامي الذي حاول في أول لقاء مع أم عباس التي تنتظر حفيدها الذي ستلده سلوى وظهر بأن حملها كاذب ، والحفيد المنتظر أكذوبة نسجتها سلوى وألزمت بها أم عباس بالعيش معها . المعلومات عنها غائبة ، لا أحد يعرف عنها شيئاً واضحاً / والله ، لا أدري يا ولدي . فهي كل يوم تأتيني بحكاية عن أصلها وفصلها ... ما عدت أعرف صدقها من كذبها ، حتى اسمها لا أظنه اسمها الحقيقي ... ولكن حتى لو كان لها أهل أتظن أن بمقدورها ...؟ لا طبعاً . لعلهم يقتلونها إذا عرفوا بمكانها / ص22
الفتاة متكتمة ، لا تكشف سراً ولا تصرح بمعلومة وكأنها محترفة إغواء منذ تاريخ طويل . وفعلاً اتضح لاحقاً بأنها متمردة ، نافرة ، من الذين تعرفت عليهم ولكنها أخلصت للأستاذ سامي ، العاشق ، المجنون بها ، والذي قدم خسائر جوهرية بسببها ، وهي أيضاً هربت الى حيث لا أحد يدري ، لأنها أدركت بما ستكون عليه ثنائية علاقتها مع سامي ، وخافت عليه من الموت اغتيالاً / عرفت أن المجرم لن يتوقف عن حرفة القتل التي اعتادها .. وأدركت أن { حياتنا معاً نحن الاثنين . قلت أختفي ليعيش حبيبي . ومن قال أنني أرضى أن أعيش أنا . وتضيعني أنت ، أيتها المجنونة . أعرف أنك تخاف عليَّ من السقوط مرة أخرى ، وأنك فعلت كل شيء تستطيع عليه ، من أجل أن تجعلني أعيش بكرامة . لكن السقوط ، يا عزيزي سامي ، له وجوه عديدة ، أكثر بشاعة من اضطرار امرأة الى بيع جسدها لكي تحيا . أنت نفسك قلت لي هذا مرة . كلامك هذا يمزقني . لا تبتئس فمثل هذه النهاية ليست محتومة . إذ ربما وجدت عملاً ، فأنا بفضلك أعرف الآن الكتابة على الطابعة . وربما عثرت على رجل يتزوجني ، ويحميني بين جدران بيته} / ص126 .
ما قالته سلوى في رسالة أولى وأخيرة ( أرسلتها للأستاذ سامي بواسطة السيدة ماجدة معاونة الإدارة معه ) كشفت عددا من الأسرار التي كانت مغلقة وأجابت على أسئلة انشغل بها الأستاذ سامي ، لماذا اتخذت قرارها الذي زلزل كيانه ، وجعله يعيش لحظة مأساة وفجيعة جديدة كشفت سلوى عن أمنية الزواج والعيش مع زوج في بيت وتنتظر طفلا ، حتى تغادر منطقة البغاء ، تريد أن تحب شابا مثلما حصل لها مع سامي ، ولكن المجرم الذي اغتال عباس هو المطارد لها ، يريدها وهي لا تقوى على الحياة معه لحظة قصيرة ، قررت الهرب ومغادرة البيت وتركت أم عباس وحيدة ، ولكن الى أين ؟ ومع من ستعيش ومن يوفر لها ما تحتاجه من يوميات السكن والطعام ؟ من هو الذي ستصطاده وتأوي إليه ، يحميها ويتكفل حياتها كلها . وهل من ستصطاده لها علاقة سابقة معه وعرفته في يوم من الأيام ؟ وعلى الرغم مما تضمنته رسالة سلوى وضعت الأستاذ سامي أمام وقائع جديدة لها علاقة بحياتها وعلاقاتها ، وعرفته بأنها فعلا ملاحقة / لا بل مطاردة وقد تتعرف لاحقاً على هذا الشخص . ويبدو من خلال شليلة الوقائع في رواية " الشاطئ الثاني " بأن حياة سلوى مكونة من اختبار وهروب وتتكرر ثانية وثالثة وهكذا ، كما أنها راضية بمثل هذه الحياة وقابلة بها ، لأنها مفروضة عليها وتعايشت مع السائد وفضاء الحرية بسيط ، سرعان ما يتحول الى سجن لها ، تمارس من خلال الجسد حريتها وتعيد رسم حكايات جديدة عن الحب والجنون ، وهي بارعة بذلك ومثيرة ، قادرة على امتلاك الإنسان من أول نظرة لها ، تجذبه منصاعا معترفا بقدرتها وطاقتها على الإغراء واختبار شكلها وجسدها في تحقيق ما تريده وتنجح به / معطفه يغطي ظهرها ، يداخله إحساس غريب وهو يرى معطفه يحيط بجسدها ، كان هذا المعطف الرجالي الذي يحمل عرقه ورائحته والذي يلامس كتفيها وظهرها قد مد بينه وبينها جسرا من العلاقة الحميمة التي لا تخلو من نزوع جنسي / ص37 . أعلن للفتاة عن انجذابه لها وكان المعطف دالا على ذلك ، دثرها به واقتربت من رائحة رجولته المبثوثة فيه ، وقبلت بذلك وسعيدة به ، وأدركت بأن الشفرة التي أرسلها واضحة المعنى ، لذا ومضت عيناها بفرح مفاجئ لم تعرفه مثلما عرفته في تلك اللحظة "عيناها متفائلتان ترنوان الى وجهه " ولأنها أدركت ما أراد قوله من خلال المعطف ، ارتضته ، بمعنى أعلنت عن قبول للأستاذ سامي الذي تحلم أن يدثرها ويحميها . لذا وظفت هي أيضاً المعطف لإيصال رسالة واضحة وصريحة لسامي " ترفع يديها تمسك بحافتي المعطف تجعلهما يتلاقيان فوق صدرها تنشد مزيداً من الدفء . معطفك مريح أنا لم أضع على ظهري معطف رجل من قبل . تضحك بارتياح ملامحها ، تبدو مسترخية وتسقط يدها القريبة منه تمسك بيده / ص37.
دثرها سامي بعطفه وحبه وانقادت لذلك وتوصلت الى ما ينطوي عليه الدثار " أصابعها تظل بعد ذلك تتشبث بكفه / 37 والمعطف علامة دالة على الحماية والرعاية وهذا ما كشفت عنه تفاصيل الرواية لاحقاً .
التمت تحت معطفه ، ساترة جسدها الطويل والمثير ، هذا الجسد الذي كشفته كالمرآة في أول لقاء لهما في الشقة ، أعلنت عنه تماماً وطلبته وكان جسده بديلاً لمعطفه في ذلك المساء " إن التوقف عن رؤيتها أصبح الآن ضرباً من المستحيل " / ص40 وظل أسد بابل في إحدى ساحات البصرة رمزه الفني الذي كثيراً ما وظفه من أجل المعنى الذي تريد ، لكن دلالته الجنسية هي ذات الحضور الأكثر ، يراه وينشط فكره في تصورات عن العلاقة معها / عندما يقترب من تمثال أسد بابل والامرأة البرونزية المستلقية على ظهرها تحته فوق منبسط قاعدة التمثال ، كأن الأسد يضاجعها على رؤوس الأشهاد / ص40