TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > نذر اكتبه كل خريف

نذر اكتبه كل خريف

نشر في: 17 سبتمبر, 2014: 09:01 م

صادفت اليوم"برحياً"بصراوياً في مواد غوغل مكتوباً بحرف لاتيني، فهرعت الى السوق ووجدته قد وصل اربيل. وها هو امامي، اشمه مثل غرض كنز ضائع، لينقلني شذاه عبر الازمان الدافئة. افكر الان لا في النخيل مقطوعة الرأس من حرب الثمانينات، بل في نخيل حول اماكن الحرب على داعش، تنتظر قطع رؤوسها.
وبما يشبه الفرض او النذر، أكتب كل سنة في الخريف شيئا عن النخيل. ليس مجرد حنين لمنظر مهيب كنت أحدق في تفاصيله بذهول كلما بدأت يومي بفتح النافذة ورؤية الحقول التي تمتد حول منزل الطفولة بالبصرة. ولا لمحض أن"إخوان الصفا"اعتبروها"إنسانا"بمقاربة داروينية مبكرة، وأن صديقا كان يتفاخر أمامي بأن في وسعه رؤية آثار أقدام جده على الجذع، ويجعلني أتفحص ساق الشجرة باحثا عن آثار أقدام الآلهة العراقية التي كتبت الأساطير وهي تتحسس رائحة السعف والعذوق، حين يكون الجذع مجرد معبر للآلهة. وها قد بات بلد التمر البراق، حقل نفط مسخم (وهل هذا سواد يليق بأرض السواد)، ينشغل عن إحصاء الشجر، بحساب كميات الموت وحماقات الساسة، منذ ٣٠ عاما.
النخلة"أقرب إلى الإنسان"كما سجل إخوان الصفا في رسائلهم، حين تحدثوا عن سلّم الكائنات الحية بكلام يشبه ما سيقوله دارون ولامارك لاحقا. فهي"النبات الوحيد الذي يموت حين تقطع رأسه، كالإنسان".
الجذع يحفظ آثار أقدام العراقيين منذ الأزل، وهم يصعدون نحو"العذوق والشراميخ"متفننين برعاية"الطلع والحبابوك والكمري (بالجيم الفارسية)"ثم"الخلال والرطب والتمر". ومن بين السعف، انطلق العراقيون نحو مصائر شتى فنقشوا الحروف في سومر وصنعوا العجلة في بابل والمكتبات في آشور، ثم أضافوا لقلب حضارة الإسلام بصمة تنوع لا تنسى. وهو لم يكن مجرد جذع بقدر ما كان"ممرا للآلهة"التي خلقت العالم القديم، ثم تسلقته وكتبت الأساطير"في العلى".
لقد فقد جني التمور وقصها كثيرا من زهوه السابق، لأن الروح كسيرة ومليئة. كيف سنحكي لابنائنا هذه القصة؟ لقد كان اجدادكم يغنون بلا توقف وهم يتسلقونها بفرح، أما هذه الأيام فنشاهد"الصاعود"صامتا وهو معلق بين الأرض والسماء، وفي أُذنه سماعة مربوطة بهاتف ذكي يبث أغنية، أو نشيدا دينيا حزينا، وربما أخبارا عن تناحر الطوائف، او صوت سياسي احمق يدعو للثأر الخائب، وشيئا لا يحب النخيل سماعه.
وفضلا عن صمته فإن آلة تسلق الجذع،"التبلية"أو"الفروند"، لم تعد أنيقة كما في السابق. هي اليوم مجرد سلك معدني بلا روح، يشد قطعة قماش متهرئة، كما شاهدتها في حقول النهروان واليوسفية. أما في الماضي فكان"الفروند"تحفة فنية ورأيته يصنع في أبي الخصيب من ألياف جوز الهند و"الكمبار"والحبال المستخدمة في السفن، بعروتين من الخشب المنحوت بعناية، معقودتين بإحكام.
سنظل نتذكر بحزن كيف أتيح لآبائنا ان ينصتوا بين الغابات، للهجات الطيور الملونة، ويتفقدوا مسارات الأنهار، ويحسبوا أنواع النبات البري وسط غابات النخيل، يوم كانت تحيط بمدننا تلك الحقول التي سحرت مؤلفي الأساطير الدينية والشعراء وناسخي مباحث المعتزلة والنحويين ومبدعي علم البصريات والخلفاء والعساكر والغزاة.
إنني أكتب فرض الخريف منذ اربعة اعوام، وأعيد ما سجلته العام الفائت، بلغة الاعتذار لروح الطبيعة التي خذلناها فخذلتنا.
ان النخلة، وآثار أقدام سلالاتنا العراقية على جذعها، خارطة لما تبقى من اصالة هذه الأرض وآمالها. وهي إذ كانت شبيه الانسان عند إخوان الصفا، فهي أيضا"آخر العراقيين العظماء".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram