TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > التعبيرية العراقية.. استيقاظ متأخر

التعبيرية العراقية.. استيقاظ متأخر

نشر في: 19 سبتمبر, 2014: 09:01 م

( وقال جمع التكليف شمل الكون فلا تقل هذا حجر وهذا شجر فلا أبالي. غاية العين أن يعرفك الحجر والشجر والحيوان ولا تعرفهم إلا بعد كشف الغطاء ولا تقبل المعاذير) ابن العربي.. من, كتاب الشاهد.   (2) في ليلة شتائية مثلجة من مشهد لفيلم دانمركي, يخرج ب

( وقال جمع التكليف شمل الكون فلا تقل هذا حجر وهذا شجر فلا أبالي. غاية العين أن يعرفك الحجر والشجر والحيوان ولا تعرفهم إلا بعد كشف الغطاء ولا تقبل المعاذير)
ابن العربي.. من, كتاب الشاهد.

 

(2)

في ليلة شتائية مثلجة من مشهد لفيلم دانمركي, يخرج بطل الفيلم, وهو فنان تشكيلي, من كوخه في الغابة متمهلا ثم ينزل تدريجيا في البحيرة المجاورة حتى يغطس جسده العاري كله ويغرق متعمدا. وان بدى هذا الفنان في مشهد غرقه هذا لا مباليا. إلا أن ثمة صراع ويأس مطبق سيطر على ذاته, وقاده لينفذ فعلته المأساوية هذه. وحشة الغابة في أصقاع الشمال الأوربي. ووحدته الاضطرارية بعد انقطاع السبل, وهو الذي تعود طيلة حياة نضجه العيش في متاهات مدينة باريس وحواريها, وصخب الصحبة الفنية الشيقة. انكسارات الذات هي الأكثر ملاحظة في شتاءات الشمال الاسكندينافية. هذه الانكسارات ووحشة وتوحش النفس, هي التي خلقت فن النرويجي(ادوارد مونخ) ملهم التعبيرية الألمانية الحديثة. مثلما هيأت التربة الخصبة لنتاج البلجيكي(جيمس أنسور), والهولندي(فان كوخ). دون استثناء المؤلفات المتأخرة للكاتب المسرحي السويدي(أوكست ستريندبغ).
لا ادري ان كان الألماني(نولده) وهو احد أعمدة التعبيرية, قد تأثر بأقنعة ونسور بما انه سابقه. فالقناع عند كليهما, هو مجرد لعبة أقدار تعمل في الخفاء, لطمر المكشوف, تحت حجب, غالبا ما تكون ذاتية المقاصد. ونسور في رسوم أقنعته يبدو متماهيا وتراجيديا الغياب الأبدي. أما أقنعة نولده فهي لا تفارق جذرها الطبيعي, رغم استعارتها وهج ألوان ونسور. و كلاهما متلبس بهاجس الإفصاح عن عمق الانفعال الذاتي, لا وهمه. رغم اختلاف منشأ هذا الانفعال. مثلما كان مسيح عمال المناجم( فان كوخ) يترك ذاته نهبا لورع مثالي, لا يبصر من خلاله الا مآسي أقرانه البشر في سلم حياتهم السفلي, قبل أن تغمر حواسه لهيب شمس الجنوب الفرنسي وتخطفه بنشوة لم تفارقه حتى الرصاصة الأخيرة التي اخترقت جسده الذاوي. ان كانت الأداءات ووسائلها التعبيرية عند بعض الفنانين التشكيليين الألمان هي مجرد سلوك لنبش الجمر الداخلي. فهي أيضا جمر الخيبة والخذلان الحضاري للسنوات الأولى من القرن العشرين, وهي عاصفة الزمن الحرج في إثناء وبعد الحرب العالمية الأولى, واسى تداعيات خسارة حربها التي حصدت أيضا بعض من أرواح فنانيها (أغسطس ماكي, وفرانز مارك). لقد كانت أعوام القلق واللا يقين و الحرب غولا, ولم تخلف غير الخذلان, ومن اجل البحث عن غيلان مشابهة. وجد نولده وصحبه ضالتهم في رسوم(ماتياس غرونيفالد ـ (1475-1528) الكنسية, بخيالاتها الجهنمية و شياطينها الغوطية. ثم لم يخلو نتاج(ماكس بيكمان, اوتو ديكس, ماكس ارنست, فرانسيس بيكون لاحقا) من تأثيراتها. لقد كان للأسلاف ايضا دور في المنجز التعبيري الفني الحديث. مثلما هو اثره في المنجز العربي, ولو من زاوية أخرى. إن أردت ان تستعين بشياطين الخيبة والغضب والإحباط والريبة والخشية والقنوط, فهي موجودة دوما, كما في زمننا الكارثي هذا.
الغريب في التشكيل العراقي, إننا لم نلحظ أعمالا تشكيلية تنتمي للمدرسة التعبيرية الحديثة بوضوح قبل عقدين ربما. بالرغم من وجود بعض الأعمال التي مست الحدث مسا على قلتها. وتحضرني هنا حادثة افتتاح مركز الفنون من قبل صدام حسين وامتعاضه من لوحة للمرحوم كاظم حيدر التي كانت تمثل فاجعة الحرب (العراقية الإيرانية) وقتها وطلبه إزالتها. لقد كانت اللوحة عبارة عن كدس من جماجم وأنقاض بشرية. تعيدنا هذه الحادثة إلى ما فعلة النازيون بالأعمال التعبيرية باعتبارها(فن منحط). لكن صدام لم يكن يفقه شيئا بدلالات ولا أهمية الفعل التعبيري. بل كان يفكر بمجده الخاص والذي ضيعه لاحقا, كما ضيع العراق في متاهات متناسلة, وبقيت محنة الضحايا من نصيب الفنان, ليعبر عنها بأدواته وبحسه الإنساني. و يبقى السؤال عالقا: لماذا لم يتناول التشكيل العراقي كارثة حرب الثمانية أعوام, وحرب(91)وبحجم كوارثها. وهو أمر بحاجة إلى إعادة استقصاء. 
إن كان حصاد التشكيل العراقي لزمن حرب الثمان أعوام, وما تبعه من حصار مدمر, لم يطلق العنان لجذوة التعبير الفني بما يناسب الفاجعة. فان الاحتلال الأمريكي في عام(2003) وما تبعه من مآسي محلية, أدت إلى هجرة معظم التشكيليين العراقيين. هي التي فجرت ينبوع الألم المزدوج. الم القتل المجاني لمكونات الشعب, وحجم تناولها صوريا عبر وسائل الميديا. وألم الغربة, لنفوس انطبع الوطن في وجدانها إرثا وبيئة معاشة بتفاصيل تستحضر كل زوايا محيطها, لحد التباسه و فضاءات الغربة. مثلما في أعمال بعض التشكيليين الذين غادروا الوطن. والذين لم يغادروه. ومن جيل احدث. 
إن حافظ معظم جيل التشكيل لما بعد الرواد العراقي على نمطية أساليبهم الأدائية, فجيل الحروب المتكررة لم يهتموا لذلك بقدر الإمساك بالواقع العياني وخيالاته, دراما كارثية. ولم يكن واقعهم ساذجا, إلا في بعض من الأعمال الأقل قدرة على الإمساك بالتفاصيل الدراماتيكية. أو لمجرد اللعب على الفعل التعبيري لمعالجة جماليات وتفاصيل ابتذلت لكثرة ما تناولها تشكيليون عراقيون أقدم عهدا. ما يهمنا, هي التجارب التي أثبتت جدارتها التعبيرية كعلامات جديدة في فضاء التشكيل العراقي المتجدد. أعمال لفنانين مثل(سيروان باران, محمود شبر, صدام الجميلي) وآخرون, منهم(زينة مصطفى سليم, سنان حسين, فؤاد حمدي, كفاح عبد الجبار, احمد نصيف, امجد الطيار, عمر الشهابي, قيس السندي, محمد مسير, والشاعر سليمان جوني) وآخرون لا تحضرني اسماؤهم. 
لنعاين باختصار ثلاثة منجزات تعبيرية تشكيلية مختلفة باختلاف هواجس كائناتها التشخيصية المتعثرة بتفاصيل صادمة هي أصلا من وحي صدمة الحدث العام والشخصي, إن لم تكن جزءا من مشهديته, ولو اختلط العام بالخاص في الحدث العراقي. 
ـ لم يكن الفنان (سيروان باران) وهو الفنان الذي نضجت تجربته الأكاديمية في نهاية الثمانينات. إن لم تخني الذاكرة. والتي بقيت مهارتها عالقة بمنجزه اللاحق ـ والذي استثمرها لعقد لاحق أو أكثرـ بعيدا عن مركز الحدث المأساوي, بتفاصيل سعى لان تأخذ حيزها في فضاء أعماله, إدانة لحوادث الانتهاك الصارخة التي تعرض لها أناسنا العراقيون لأزمنة ما بعد(2003) المتكررة. شخوص سيروان المأزومة ـ المجروحة تعوم في فضاءات معتمة, مفتوحة على جهات أربع, بتقشف بعض الإضافات الدلالية. كما في أعمال الايرلندي(فرانسيس بيكون). لذلك فهي تبدوا متوحدة في انحيازها الحيادية, مكتنزة بجروح انفعالاتها الذاتية. وان تكن ثمة إشارة الى بيكون(وهي إشارة مجازية). فبيكون عبر في كل أعماله المعروفة عن هم انحراف شخصيته بميولها المثلية. على الضد من ذلك كان الانحراف العام الكارثي هو ما حاول التعبير عنه سيروان في احيازه الكابوسية المغلقة. سيروان اختار أدوات عصر احدث من زمن التعبيرية الألمانية الأول. موظفا أداته الأكاديمية في سبر موضوعة صراع الذات وانتهاك وجودها, لا كصور واقعية, بل لمسخ الواقع بما يعادل ما واقعية الحدث المتخلف من كم أشلاء الضحايا المتناثرين على أعتاب مدننا ودواخلها. ولم يستثنِ قطيع كلابها السائبة. وان كان الحيوان عنده لا يزال يتمطى في فضاءات ملتبسة. فوجوده لا يتعدى كونه شاهدا , لا مشاهد. رسوم سيروان بمثل ما تحيلنا إلى أجواء الرسم الكلاسيكي بدرجات عتمتها واضاءاتها. هي أيضا لا تلغي انتماؤها لعصرنا الحاضر, وبشكل خاص في تجارب العديد من فناني الشرق الأوسط, وحراك تشكيلي شرق اوربا التي خبرت حدة التغييرات السياسية والاقتصادية, مع ما رافقها من حوادث دراماتيكية لم تخلوا أيامها من كوارث إنسانية.
ـ أعمال الفنان صدام الجميلي, مغايرة بشكل واضح لأعمال مجايليه من الفنانين الشباب. بشخوصها التي هي وليدة سيرة محيط محبط, فهي تبدو مغرقة بعدم يقينها الوجودي, ضمن فضاء إقصائي لا مجال فيه لتصالح الذات ومحيطها, إلا في حدود النزر اليسير. الذي ربما يهيئ لرغباتها الجوانية شروط الريبة, أو إقصاء الآخر, لحد مسخه, وهي رغبة تتاكلها, على ما يبدو, فخواء الذات الافتراضية, لا بد له من امتلاء تعويضي, كما في شخوصه المتقابلة أو المتعارضة ضمن حاضنها الرصاصي(الحيادي) , ولا مجال لتحييدها, ما دامت تبدو كدمى مسرحية معرضة للاهتراء. وان حاول الفنان مسرحتها ضمن أحياز ضيقة, أو لصيقة, ضمن إيحاءات لا تحبذ إلا الإفصاح عن ردة أفعالها الجوانية, وعن خيبات تتعثر بزوال أحلامها المستحيلة. أجساد متضخمة, ليس بحظوظ عافيتها, بل بخطوط حرث أزمنتها العميقة. فأي محنة صاغت يباب وقحط هذه الأجساد, رغم شساعة مساحتها. ليس للجمال, كما في الأعمال الصباغية للكثير من التشكيليين العراقيين, من مجال في هذه الرسوم. هي رسوم الفعل الغفل, الذي ضيعنا جيلا بعد جيل في متاهات الإقصاء والحروب العبثية, لحد أن بات الجمال يشكل عبأ في أعمال مثل هذه, وعند جيل تشكيلي عراقي جديد. وربما أشخاص الجميلي تقاوم رغبتها الشديدة في الانتحار يأسا, فهي تعلم بان زمن المعجزات ولى إلى غير رجعة. مثلما هو يقين صانعها. ولم تكن شخوصه الإنسية من تشاركه هذا اليقين فقط. بل حتى حيواناته باتت سادرة في عدم اليقين, تتبادل مواقعا, هي ليست مواقعها. ربما هناك مس سريالي في هذه الرسوم. والكثرة من الرسوم التعبيرية, هي الأخرى لا تخلو من هذا المس بما انه بعض من نفث جواني, لا يخفي مقاصده التعبيرية الإيمائية. في زمن باتت حوادثه لا معقولة.
الفنان الآخر. ومن جيل مقارب, والذي لا يمكن إغفال ما أنجز من أعمال جمعت ما بين ارث التعبير المحلي والعالمي في آن واحد وبصياغات حافظت على فرادتها, ضمن حاضن الداخل التشكيلي. هو الفنان(محمود شبر). فنحن نكتشف في رسومه غالبية عناصر المدرسة التعبيرية التي لا تغفل استدعاء بعض من صور الأثر التشكيلي المحلي لعصور سابقة(كما درس التعبيري الألماني الأول). و ليس كما استحضرها جواد سليم, كجماليات تنتمي لأرث رسوم الواسطي, ولا تتنصل في نفس الوقت عن أداة الرسم الحداثي. محمود شبر لا يعنيه من الواسطي سوى أسطورته الشعبية, وهو يستعيدها بأداة تنأى عن الجمال التزويقي. فخطوطه الخشنة تنغرز في سطوح شخوصه وعوالم محيطه حفرا لاستجلاء نبض البداءة الأولى المفقودة. ولا تخفي في نفس الوقت استشرافها لطفولة مستعادة عبر رحلة لا يحدها استحالة المنال, رغم شحة الزاد, وتشتت الفعل. هو يلملم ما تبقى من تلك الأزمنة, بما تبقى له.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

التعديل الوزاري طي النسيان.. الكتل تقيد اياد السوداني والمحاصصة تمنع التغيير

حراك نيابي لإيقاف استقطاع 1% من رواتب الموظفين والمتقاعدين

إحباط محاولة لتفجير مقام السيدة زينب في سوريا

امريكا تستعد لاخلاء نحو 153 ألف شخص في لوس أنجلوس جراء الحرائق

التعادل ينهي "ديربي" القوة الجوية والطلبة

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram