معرض "الفن الشعبي البريطاني" في متحف "التيت برِتِن" أثار بي تساؤلاً أخرجني من إطار تقييم واستيعاب المعروضات الفنية الشعبية في ذاتها. التساؤل يدور حول الغنى والكثافة اللتين يتمتع بهما فننا الفولكلوري الشرقي، مقارنة بهذا الفن البريطاني، وربما الأوربي بصورة عامة. الغنى والكثافة يتصفان أيضاً بعدم التكرار. ولذلك يبدو البساط الذي تصنعه يد فلاح، أو بدوي لا يتكرر في بساطه الثاني. فكل عمل له يستحق أن يُسمى عملاً فنياً لا حرفياً.ولعل الفرق بين المصطلحين واضح، فالفن وليد أفكار صاحبه وخياله. وتصنيف الفن الشعبي باعتباره حرفةًيبدو لي وسيلةً لتجريده من فرادة الفن التي تمنحه سلطة، عن طريق رؤيته مجردَ عمل يدوي ولا ينطوي على أي معنى إبداعي.
المعرض الذي رأيته، على اتساع قاعات العرض، فقير في المعروضات: بساط مزخرف، مخدة مُطرّزة، تمثال خشبي بملامح أسطورية لمقدمة سفينة شراعية، تمثال دعائي لمحل تجاري أو مطعم، قفل ضخم لصانع أقفال، حذاء جلدي ضخم الحجم يعلّق في بوابة إسكافي...الخ. ولعل هذا الفقر ليس مجرد تقصير من منظم المعرض، بقدر ماهو شحة النتاج الفني الشعبي، الذي تقلّص بفعل التقدم الصناعي. فالمعرض قد يرجع في الزمن إلى ما قبل القرن التاسع عشر. ولكن هذا القرن يُعتبر مرحلة متأخرة في مسار النهضة الصناعية التي أزالت دور الفرد الحِرفي في الصناعة، والتي بدأت ناشطة منذ القرن الثامن عشر، إذ سحقت بنشاط عجلتها معظم نشاط الحرفيين. وهي تواصل السحق حتى اليوم.
في العالم العربي، وفي العالم الثالث، إذا لم يُصبح عالماً رابعاً بعد، مازال الانسان الماهر، والذي يتمتع بمخيلة فنان، يعتمد نشاطه اليدوي في قوت يومه. وأنت مازلت ترى هذا النتاج الذي يتمتع بصفة فن وأنت تتجول في حارات المدن وأزقتها وأسواقها العامة. الأمر الذي أصبح نادراً في مدن الغرب عموماً.
من الأشياء الملفتة للنظر في المعرض جناح صغير خُصص لفنان شعبي يُدعى "والِس ألْفريد (1855 ــــ 1942). لقد كان صياداً، ثم صانع سِلال، ثم بحاراً. بدأ يرسم في مرحلة متأخرة، بعد أن تجاوز الخامسة والستين. لوحاته نموذج جيد للفن الشعبي الذي يذهب إليه المعرض؛ فهناك تجاهل للمنظور، ومقاييس الأشياء في اللوحة عادة ما تعتمد على أهميتها داخل المشهد. لوحته تعتمد الذاكرة وحدها، لأن عالم السفن الشراعية الذي اعتاده وعمل فيه قد تلاشى، وحل مكانه عالم السفن البخارية.وبالرغم من أن إنشاء لوحته تشكيلاً وألواناً يأخذ طبيعة الخارطة الجغرافية القديمة، إلا أن وضوح المشهد الحلمي لإبحار السفن الشراعية بالغ الحيوية.
الجناح الآخر الجذاب يعود لماري لِنْوود (1755 ــــ 1845)، التي تنسجُ لوحتها الفنية بالأبرة والخيوط الملونة؛ بدأت مع هذه الهواية منذ كانت في الثالثة عشرة من العمر. وفي عمر العشرين أصبحت فنانة مُكرسة. في عمر الواحد والثلاثين جذبت انتباه العائلة المالكة، فدعتها الملكة تشارلوت لعرض أعمالها في قصر وندسور.كانت لِنْوود تنسج يدوياً بالإبرة والخيوط المستعملة لوحات الفنانين الكلاسيكيين، وقد تستغرق اللوحة سنوات عشر لإتمامها. واستخدام الخيوط المستعملة يمنح النسيج الذي تطرزه طبيعةَ الفرشاة الخشنة.
تجاوزت لِنْوود بلدها في عرض أعمالها الفنية إلى روسيا، وهناك عرضت عليها الملكة كاثرين شراء كل أعمالها بمبلغ أربعين ألف باوند، وهو مبلغ خيالي آنذاك، ولكنها رفضت، لرغبتها في أن تحتفظ بأعمالها داخل بلدها.
ما تبقى من قاعات المعرض يزدحم بعناصر بصرية لعالم سوريالي حيوي: أسماك طائرة، كائنات شبه شيطانية، حيوانات أليفة وكاسرة، أدوات استعمال بحجوم خيالية..، ولكنها تعاني في مجموعها من توفير حاسة الوفرة والتنوع لدى المشاهد.
فنون الشعب أم حِرَفه؟
[post-views]
نشر في: 21 سبتمبر, 2014: 09:01 م