TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > المدينة في العراق ودور المجتمع في تشكيلها

المدينة في العراق ودور المجتمع في تشكيلها

نشر في: 26 سبتمبر, 2014: 09:01 م

يُحمّل المخطِط والمعماري أحيانا ً أخطاء ما يقترفه المجتمع بحق مدينته وعمارتها وكأنه الأقدر على تصحيح مسارها، وينسى المجتمع دوره هو في صناعة هذه الأخطاء. ربما يتصور المرء أن المخطط الحضري والمعماري هما فقط المسؤولان عما يحدث في هيكل المدينة وعمارتها،

يُحمّل المخطِط والمعماري أحيانا ً أخطاء ما يقترفه المجتمع بحق مدينته وعمارتها وكأنه الأقدر على تصحيح مسارها، وينسى المجتمع دوره هو في صناعة هذه الأخطاء.

ربما يتصور المرء أن المخطط الحضري والمعماري هما فقط المسؤولان عما يحدث في هيكل المدينة وعمارتها، في حين أن هناك مدنا ً بأكملها تبنى من دون أن يكون لها أي دور يذكر فيها. وليس من المبالغة القول إن قرى العالم الثالث كلها ـ والعراق أحد دوله بدون أي تردد ـ تبنى من قبل مجتمعها فقط، وإن الكثير من الاقضية والنواحي تنشأ وتنمو وتتوسع من دون أن يكون لأي مخطِط حضري دخل في ذلك، وكذا الحال بالنسبة للعديد من قطاعات المدن المخطـَط لها التي تبنى بشكل عفوي وربما فوضوي من قبل مجتمعاتها برغم الحدود والقوانين والاطر التي وضعت ورسمت لها.
 
أما الإحياء العشوائية Slums والتي تبنى كيفما أتفق فبرغم كونها من أعظم المشاكل الحضرية التي تجابه أي تخطيط حضري، فانها نتاجات نقية للمجتمعات التي تقطنها وانها صناعة شعبية خالصة لاتشتمل على أي تدخل معماري، وأن ما فيها من ملامح حضرية ومعمارية ـ أن جاز القول ـ هي من نتاج ساكنيها، فاذا كان المجتمع المنتج لها مجتمعا ً هزيلا ً لايملك أدنى مستوى من الثقافة المعمارية وهذا هو الأغلب، كانت هذه الأحياء مجرد تجمعات فوضوية وتراكم لمشاكل غير قابلة للحل وتركيز لأذواق فاسدة لايمكن لاي فرد ٍ واع ٍ لمسؤولتيه القبول بها. وأن المؤسسة التي تقبل بوجود بعض العشوائيات وتحاول أن تمنحها حق البقاء كما هي ، أنما هو قبول بالخطأ وتملص من مسؤوليتها لإيجاد الحل ومصادقة منها على إشاعة فساد الذوق.
وعند اجراء مسح سريع لواقع المدينة في العراق فان أجزاءً واسعة ً منها هي من نتاج المجتمع لا المخطط أو المعماري، ذلك أن الجزء الأعظم من دور السكن هي من نتاج المجتمع وبعض الحرفيين الذين يمثلون استجابة وانعكاس لرغباته فقط، وكذا الحال بالنسبة للكثير من المباني الدينية والمحال التجارية والفنادق وبعض المعامل والكثير من الفضاءات الحضرية المفتوحة. وتبعا ً لذلك فأن الثقافة المعمارية التي يحملها المجتمع هي التي توجه وتحدد الطراز المعماري Architectural Style لمكونات المدينة هذه وربما لعموم المدينة. 
وفي هذه الحالة تصبح عمارة المدينة مرآة صريحة بل وفاضحة لثقافة المجتمع السائدة فاذا ما ارتقت ثقافته ارتقت معها المدينة بعمارتها، واذا ما انحدرت وانحطت ثقافته انحدرت معها عمارته. وتضحي معها قراءة الهيكل الحضري Urban Structure للمدينة (نتاج المجموع) وقراءة العمارة (نتاج الافراد) قراءة مفتوحة غير قابلة للتأويل لثقافة المجتمع. فتصبح معها فوضى هيكلية النسيج الحضري للمدينة انعكاس لفوضى المجتمع، وانعدام النظام في عمل هذا النسيج في خدماته وحركة مروره وتوزيع وظائفه دليل عدم انضباط المجتمع واحتقاره للنظام وللقوانين، وتصبح معها قذارة المدينة مرآة لقذارة ساكنيها وإداراتها، وتصبح قباحة الشوارع والساحات والمباني دليل فساد الذوق المتفشي في المجتمع، ويكون معها عدم الالتزام بقوانين البناء مرادفا ً للخروج عن القانون ومرادفا ً للجريمة، وانعدام الخدمات الحضرية والاجتماعية العامة في المدينة انعكاس لقسوة المجتمع وفظاظته، والتفكك الحاصل في هيكل المدينة حصيلة لتفككه، وافتقار المدينة لهيكلها الاخضر Green Structure دليل ازدرائه للطبيعة وافتقاره للمعرفة بها، ويصبح سوء اختيار الانماط Styles والاشكال Forms والمواد Materials دليل جهل المجتمع وسوء اختياره، ويصبح استيلاء المساحات التجارية على الخدمات المدينية العامة دليل مادية المجتمع وجشعه، وسوء تنظيم المدارس انعكاس لاهمال المجتمع للتعليم، وكثرة المباني الدينية وفخامتها مع خلوها وقلة استخدامها دليل النفاق والتظاهر، وإهمال المباني الثقافية دليل انعدام الثقافة واحتقارها. 
اذ يصبح الإفراط في ارتفاع المبنى عن مجاوراته دليل سوء الجوار.
واذ تصبح بهرجة الواجهات مع فقر الداخل دليل التفاخر ليس الا.
واذ تنقلب المفاهيم فتصبح العودة للتأريخ وللتراث تخلفا ً في زمن عاد المجتمع فيه الى سابق بداوته. 
وتصبح روائع التراث وحصيلة جهد أجيال وعصور منافية للايمان، أيمان مخادع لايؤمن بشيء.
وتعود الكتابة حول هذا الدور السلبي للمجتمع وانتقاده ضربا ً من الترف في مجتمع لايقرأ ولايصغي.
من الجدير بالملاحظة أن المجتمعات التي تملك ثقافة حضرية ومعمارية عالية تحجم عن ممارسة وتطبيق ثقافتها هذه في صناعة مدنها وتترك الأمر عادة للمخطط والمعماري لأداء عمله والارتقاء به، ولكنها لاتترك دورها في متابعة عملهما ونقده وتقييمه وأحيانا ً حتى المشاركة في القرارات التصميمية عن طريق استفتاء الآراء وقبول أو رفض هذه القرارات. وهي بقدر ما تتيح له فرصة الإبداع في التشكيل فأنها تحفظه من الانزلاق في مسارات غريبة كما أنها تحفظ حقها في قبول مايراه المجتمع موافقا لمبادئه، أو رفص مالاتقتنع به. في حين يتصدى المجتمع ذو الثقافة الواطئة لكل عمليات التخطيط والتصميم والتنفيذ فلا يكون الناتج سوى فوضى وتجميع لعناصر بلا منطق وتقنيات بلا معرفة.
قد يعقد المرء مقارنة بين مدن اليوم ومدن الامس القريب منذ جيلين فقط أو مايعادل قرنا ً واحدا ً ليس أكثر على أنها مدنا كانت بمجملها نتاج مجتمعاتها دون تدخل مخطط حضري أو معماري، ولكنها مدن امتازت بكثير من النظام والمنطق وأدراك ما كان يقوم به المجتمع من دور تخطيطي ومعماري، كالمراكز القديمة لبغداد والكاظمية والنجف والموصل والبصرة وأربيل. فما الذي حل ّ بمدننا المعاصرة أذ تحولت الى خليط غير متجانس من مكونات لاتريد ان تتفاعل مع بعضها؟
ما زال المجتمع يستحوذ على النصيب الاكبر في بناء المدينة، وأن تدخل المخطط الحضري يتمثل في بناء بنية تحتية Infrastructure مازالت غير فعّالة وفي تنظيم حضري Urban Planning لايكاد يجد فرصته للظهور حتى يكون المجتمع قد أربك ظهوره وأشاع الفوضى فيه، في حين يكون تدخل المعماري في تشكيل المباني العامة البعيدة نوعا ً ما عن المجتمع وفي تشكيل سكن الأغنياء أو الأحياء السكنية المتواضعة والمتشابهة والتي لاتمثل الرغبة الحقيقة للمجتمع. 
لقد نمت المدن من قبل بشكل عفوي طبيعي ونتيجة لتراكم خبرات أجيال متلاحقة وأعتمادا ً على ثقافة تغلغلت في المجتمع بشكل تشبعت معه كل فعالياته بما فيها العمارة والتخطيط، ولعل هذا ما جعلها تمتلك قدرا ً كبيرا ً من النظام Order والوحدة Unity والتناسق Harmony ، وبذا فقد كانت الثقافة السائدة للمجتمع وتقبل المجتمع لها بعد أدراكها بمثابة المعايير Standards وبمثابة قوانين البناء Buildings Codes والتي حافظت على هيكلة المدينة وعمارتها، ثم حدث أن لم تعد هذه الثقافة قادرة على الاستمرار بعد أن تبنتها أجيال عاجزة عن تطويرها والارتقاء بها كي تواكب التغييرات الكبيرة التي صاحبت الامبريالية في القرنين الماضيين فكان أن تخلى المجتمع عما يحمله الى ثقافة لم يدركها ولم يفهمها بعد ولم تصله منها سوى قشورها المتسخة بالسياسة وبالمصالح وبالمظاهر الدينية.
لقد تم التخلي عن المعايير السابقة وعن قوانين البناء بل ومباديء التخطيط والتصميم مقابل معايير وقوانين ومباديء جديدة غير مناسبة ( الثقافة الجديدة ) في مجتمع غير مستعد لتطبيقها، فلم يكن من المستبعد أن يستحيل الامر الى فوضى ومحاولات يائسة لصناعة عالم جديد في المكان الخطأ في غير مجتمعه وبالوسائل الخاطئة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram