حين تسأل فنانا ما في العالم عن نوعية الألوان أو المواد التي يستعملها في تنفيذ أعماله الفنية، فإنك ستنتظر أو تتوقع أن يكون الجواب هو الألوان الزيتية أو الأكريليك أو البرونز أو حتى مواد مختلفة، لكن أن يقول لك الفنان وبكل ثقة أن المواد التي ينتج من خلالها أعماله هي الزهور، فهذا شيء جديد وغير معروف في السابق. نحن نعرف أن فنانين كثيرين قد رسموا الزهورعلى مرَ الأزمنة ، لكن أن يستعمل الفنان الزهور في انتاج أعماله الإبداعية أو أن تكون بديلاً للألوان والمتريال فهي المفاجأة بعينها. هذا هو الحدث الجميل الذي أقيم قبل أيام في مدينة زندرت الصغيرة في الجنوب الهولندي. وبالنسبة الى هولندا، فأنا لا أعرف بلداً يحب الاحتفال والمهرجانات والألوان أكثر من الشعب الهولندي، هذا الشعب الذي يحب الحياة ويتفنن في تجميل أيامه التي تمضي سريعاً، يجملُّها بطرق لا تخطر على بال وبوسائل فيها ابتكار ومتعة وفرادة، هنا تفتح الناس أذرعها لكل بهجة ممكنة وترفع قبعاتها عالياً لتحية كل منتج للجمال والمتعة وحتى الطرافة.
نعود الى زندرت التي أقيم فيها المهرجان السنوي للأعمال الفنية التي تنفَّذ بالزهور والذي يعود تاريخه الى سنة 1936 وينتظره الناس بشغف وحب كبيرين حيث تتناثر العطور المختلفة في كل مكان وشارع وزاوية لتغطي المدينة كلها، حتى يخيل لك بأن ماتسير فوقه من جادات وما يحيطك من عطر أخاذ هو الجنة بعينها، الجنة التي صنعها الأهالي وتفننوا في إظهار فتنتها وجمالها لكل محبي هذا النوع من المهرجانات.
الشيء المدهش في هذا المهرجان هو أن 20 حيّاً سكنياً تتنافس لتقديم أعمالها العملاقة التي نفذوها كلها من الزهور ، وكل حي من هذه الأحياء خصصت له قطعة من الأرض الزراعية ليزرعها طوال موسم كامل بنوع من الزهور، وهم بذلك يأخذون بنظر الاعتبار شكل وحجم ولون الزهور لتناسب الموضوع الذي يريدون تنفيذه، فنرى هذا الحي خصص أرضه للزهور البيضاء والآخر زرع حقله بزهور بنفسجية وزرقاء والآخر كانت زهورهم برتقالية، وهكذا تتم زراعة عشرين حقلاً بألوان وأشكال مختلفة من الزهور، وهناك مجاميع من الأشخاص الذين تفرغوا للاهتمام بهذه الحقول، كل مجموعة تهتم وتتابع الحقل الخاص بالحي الذي يسكنونه. في النهاية حين يقترب وقت المهرجان يتم قطف هذه الزهور، وتتم هذه العملية عادة قبل الافتتاح ببضعة أيام كي تبقى الزهور طازجة ونضرة ومحافظة على جمالها وعطرها، وخلال هذه الأيام القليلة يتم انشاء وتنفيذ الأعمال الفنية التي بنيت هياكلها قبل أسبوع من ذلك لتلصق عليها الزهور وتغطيها بشكل رائع ومبتكر وحسب الألوان التي اختاروها لمواضيعهم.
في صباح المهرجان تثبت هذه الأعمال النحتية التي يتجاوز ارتفاعها عشرة أمتار أحياناً على عربات خاصة لتدور في المدينة حيث الناس على الجانبين يتناولون قطعة سجق هنا أو شرابا مفضلا هناك وهم يشاهدون ويصفقون ويحيون هذه الجهود الملونة، لتمر في النهاية أمام منصة خاصة تجلس فيها لجنة تحكيم من المدينة، والتي تختار العمل الأجمل وتمنحه جائزتها . رائع أن يقام مثل هذا المهرجان في بلد هو الأول في انتاج هذه النباتات الملونة بالعالم وأصبحت ثقافته وتقاليده لها علاقة وثيقة بالزهور وأنواعها وألوانها التي ليس لها حدود لتصبح في النهاية جزء من عائدات البلد واقتصاده وتطوره وجماله .
وبالنسبة لي فإن المفارقة الكبيرة في كل الموضوع هي أن مدينة زندرت الصغيرة الغافية بين هذه الحقول هي المكان الذي ولد فيه الفنان العبقري فنسنت فان غوغ رسام زهور عباد الشمس وأيقونة هولندا وفخر ثقافتها. وهاهي الأجيال التي جاءت بعده تحتفي بالزهور بهذه الطريقة، هم لا يحيونه فقط من خلال أعمالهم لكنهم يقولون له الكثير، يعيدون له الاعتبار وهم يلوحون بزهورهم الملونة.
الرسم بالزهور
[post-views]
نشر في: 26 سبتمبر, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...