اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > البصرة: مدينة مواسم عاطلة

البصرة: مدينة مواسم عاطلة

نشر في: 27 سبتمبر, 2014: 09:01 م

موجع وفجائعي أن ينقضي آب وأيلول والبصرة بلا موسم لجني التمر، وأكثر منه فجائعية ومرارة أن يشتري البصري رطبه وتمره من بساتين غيره، من أشقائه مزارعي المحافظات والدول الأخرى، انْ لا تسمع بين النخيل، جلبة صاعدي النخل وقاطفيه وطواشات المنهمر منه على الارض، وحامليه إلى الجواخين، أن تختفي مئات السفن والمهيلات من أنهار البصرة الأف، ان تتبدد الألوان والأشكال والطعوم من شفاه أهله.
ما الذي يحدث في البصرة ؟ كيف يمكننا تخيّل المدينة وقد غادرها آخر صاعود للنخل فيها، أغمد منجله في خص بيته القصب، وتركه لصدأ الأيام والليالي، علق فرونده على شجرة الأكينو كاربس ليلتهم حبله الكنبارَ الدودُ والتاثوع، أسقط مسحاته على الارض لتنخرها آفة وهوام الارض . المشهد على الصورة هذه وقد يكون أبشع، وصمت النشطاء في السياسة والثقافة والعلوم أطول. وفي سرنا نسخر من مبادرة الحكومة المحلية بمنح جائزة مالية لمن يغرس قدّام بيته نخلة. هم يقزّمون مشروعنا الأخضر التجاري الكبير يا ناس.
في كل موسم لجني التمر، يكلفني أبي حين كنت أصغر أبنائه بجلب فريق من الطواشات، فيما يتعهد هو واخي الأكبر بالجني من الباسقات العاليات الراسخات في الوحل بتعبير سيدنا خالد بن صفوان، فروندان لا يكفيان وعشرة من الطواشات غير كافيات وخمسة من الناقلين على ظهورهم لا يؤمنون حاجتنا في الجني والنقل والتخزين وحين نكمل الموسم بعد شهرين من الكد والعرق والطعوم الحلوة والسهر قرب الأنهار، حيث يكون السمك دائخا وهو يلتقط ما يساقط مائعا دبقا من التوت والفاكهة، حين لا يكون الوقت كافيا لجني صوابيط العنب وجمع ما يفيض من الرمان والتين والخوخ – كان عمّي يفضل المسكي منه- ويسميه أبو خد وخد، وهو يقصد خد احمر وآخر أصفر ناري. ما الذي يحدث وكيف لي ان لا أطيع أبي لجلب له فريق الطواشات الجميلات اللواتي كن يملان بستاننا الواسع الغابي بنفانيفهن الملونة، بروائحهن، وهنَّ يضمخن شعورهن بالسعد والخضيرة .
حين احصي المكابس والجراديغ حتى منتصف السبعينات لا أقف عند رقم بعينه، لأني لا أكاد أتجاوز مدينتي أبا الخصيب، وما يحدثنا عنه الأهل من جراديغ وأعمال وسعة رزق في الفاو والقرنة وشط العرب والمدينة يفوق الخيال آنذاك. لكن لموسم الجني (الكصاص) في ابي الخصيب طعمه وموسمه الخضل في الروح. لأننا لا نكون أغنياء إلا مرة واحدة في السنة. حين يبيع ابي تمره في مثل الأيام هذه، وقد جلس في صدر المهيلة، وهي محملة بآخر (جاية) تمر، نظل ننتظر عودته على الطريق الترابية وقد انتشرت غُييمات مرتفعات تنذر بمطر خريفي مبكر.
آنذاك تلوح بشارة الغني على محياه الأسمر، كثير الغضون. ستصبح خرجيته أملأ من قبل . التمر ثروتنا الأخيرة، نحن لا نملك من التجارة ما ينفعنا يا ناس، وأهل النخل لا يعرفون شيئا من سبل طلب الرزق غيره. اما وقد غادر الكواصيص والنقلة والطاواشات وضاع في الأدوية صوت مغني الفرح السعيد، غابت طيور كثيرة، واختفت حيوانات اكثر . كان النخل غابة لا تحد . والتمر سفرة ممتدة إلى النهايات البعيدة، ياكل الغراب والطيطوى والباشق والغرنوق مما يساقط او يترك بين العذوق، وتلم الحدأة لفراخها الكثير منه، ويختلس خنزير متوحش ليلنا ليعبث بصناديق التمر الكثيرة في الجواخين . يأتي بلامة من القرنة بمشاحيف لا نراها إلا مرة واحدة في السنة، يجلبون لنا البطيخ الأحمر والأصفر منه يقايضون أبي بما يتبقى في يوخاننا من تمر رديء. وحين ينقضي الخريف ويدخل شتاءنا البارد يأتي حوذيون زبيرويون محملة عرباتُهم بالثوم والبصل واللوبياء يقايضوننا بفضلة الحشف والتمر الفاضل بين فروج الصخر وتحت أعواد الحلفاء . ياه كم كنا أغنياء وإن كانت مرة واحدة في السنة .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 3

  1. محمد توفيق

    انطباعي عن المقال الخصه كالتالي البصرة تغيب عن التاريخ ... ولا أدري هل هي مرة والى الأبد؟ ثقافة النخيل والمزارع وأعياد الكسلة والخشابة أنتهت وعاف عليها الزمن... والسبب واضح ولا أعتقد أن بصرياً واحداً لايعتريه الشك والحزن والغضب على أن ما أصاب المدينة هو

  2. ابو اثير

    سبب بلاء أهل البصرة يشابه سبب بلاء أهل بغداد بالضبط وهذا ما نشاهده من آثار سيئة حيث أبتلوا بموجات نزوح كبير من محافظات أخرى تختلف نزعاتهم الشخصية والمجتمعية والتركيبة العشائرية عن سكان هاتين المدينتين العريقتين مما ولد ظهور نزعات مركبة هجينة غير مساغة أو

  3. محمد سعيد العضب

    موضوع شيق يثير الشجون ,كما يعيد لي ذكريات شخصيه حينما كنت في الخمسينات ارافق الوالد في عمله كاتب جرداغ في نواحي البصره المختلفه من السبليات اوابي الخصيب وغيرها من مناطق البصره الفيحاء . وفي موسم كبس التمور الموجهه للتصدير الي بقاع العالم المختل

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram