لم يكن الراحل عمو بابا يرى في مستقبل التدريب في العراق ضوءاً بصيصاً من التفاؤل في نفق الإهمال الذي دخلته اللعبة بتهميش المدربين الشباب منذ أمد بعيد نتيجة سياسة الاتحادات السابقة التي كانت تعتمد على ثلة من المدربين أمثال بابا نفسه وعبدالقادر زينل وجمال صالح وأنور جسام وأكرم سلمان وواثق ناجي وعبدالإله عبد الحميد ويحيى علوان وكاظم خلف ونصرت ناصر وعادل يوسف في العقد الثمانيني تحديداً ما انعكس على قتل العديد من القدرات الشبابية وعزوف معظمها عن ممارسة المهنة وأثر ذلك على نتائج منتخباتنا في العقد التسعيني وهو يشهد خواء كرتنا من أي انجاز يذكر.
وبعيد بروز المدرب عدنان حمد مع الشباب عام 2000 وتوهج أمل المدربين المغمورين لتسلم راية القيادة في الأندية والمنتخبات مرة واحدة، انتفض شيخ المدربين عمو بابا ليوجه رسائل شديدة اللهجة إلى المتعجّلين في ركوب المغامرة، حتى بلغت عنده حدة التوتر والانزعاج في العام نفسه ليهاجم المدربين عدنان حمد واحمد راضي وأقرانهما الشباب في صحيفة (الموعد) الأسبوعية واصفاً إياهم بـ(أطفال التدريب) ، الأمر الذي أثار حفيظتهم فطالبوه أن يُذعِن لقرار الزمن الذي يؤمن بالتغيير لديمومة الحياة.
لم ينتبه أحد إلى سرّ انتفاضة بابا آنذاك وفُسّرت أنها إفراز طبيعي للأنانية البشرية في تملك الأشياء والرغبة بعدم الانزواء عن دائرة الأضواء ، بينما الرجل قالها في حوار شفاف جمعنا به أثناء حديثه لصحيفة (الإعلام) الأسبوعية عام 2001 : لا أريد مدرباً يُغامر بسمعة نادٍ كبير أو منتخب وطني وتاريخه لم يشر إلى خوضه تجارب تدريبية عدة لا تقل عن خمسة مواسم مع أندية المقدمة بصورة ناجحة وحصوله على مؤهلات علمية في دورات تطويرية خارجية لأن ذلك يضرّ بالمهمة الوطنية ويفضح أمره أمام مدربي بقية المنتخبات ويقزِّم قامة كرتنا عربياً وقارياً.
ربما أتهم البعض عمو بابا احتكاره جميع المهام في وقت كانت الكرة العراقية تحظى بأقوى منتخبات المنطقة للفترة (1984 1988) لكنه كان شجاعاً في قول (لا) للمهمة التي لا يرى مستلزمات نجاحها كاملة مثلما رفض قيادة منتخب الشباب عام 2001 للسبب نفسه بعد تجربة مريرة مع الناشئين في فيتنام ، وهو درس في المبادرة لحفظ الكرامة.
يمكن القول إن نتائج انتفاضة عمو بابا أسفرت عن بروز مدربين كُثر في ساحة الأندية بعد عام 2003 تتفاوت كفاءتهم حسب خبراتهم ، إلا إن نضوج تجربة المدرب الخلوق والمثابر الكابتن راضي شنيشل فاقت المحلية ليتولى قيادة قطر أحد أهم أندية دوري النجوم حيث يقف (الملك) اليوم برصيد (١٢) نقطة بالمركز الرابع ويصبح ضمن مربع الكبار بعدما أخفق معه التشيكي إيفان هاسيك.
شنيشل قادر على تأكيد جدارته في الجولات المقبلة ليحافظ على نجاحه، وبالتالي فإن الكرة العراقية تكسب مدرباً محترفاً على مستوى كبير من الثقافة الكروية يقف وسط دائرة الأضواء الإعلامية العربية والخليجية مع زميله عدنان حمد مدرب منتخب البحرين صاحب الانجاز الاستثنائي للكرة الأردنية ببلوغها الملحق الآسيوي المؤهل لنهائيات كأس العالم 2014 لأول مرة بتاريخها الذي لم تحقق فيه منذ أول مباراة رسمية لها عام 1953 حتى الآن سوى ذهبية دورة الألعاب العربية مرتين 1997 و1999!!
هذا النجاح نأمل أن يتكرر مع مدربين آخرين لتعزيز ثقتنا بمستقبل المنتخبات الوطنية التي يجب أن يتولى شؤونها كبار المدربين ممن يعتمدون العلمية والاحترافية لانتقاء العناصر المرشحة للمهمات الدولية بأمانة ونزاهة وهي مسؤولية للأسف لم نحسن وضع معايير صارمة لها تجنبها الضغوط الفاضحة سواء من داخل اتحاد اللعبة أو خارجه وتعرّض سمعة كرتنا إلى الاهتزاز في بطولات كنا أسيادها وأصبحنا نتفاخر ونتنفس الصعداء إذا ما حققنا فيها الوصافة أو توقفنا في أحد أدوارها المتقدمة!
إن النجاح بشطارة عقل أو ضربة حظ مع أي منتخب ليس مستنداً يبيح أو يسوّغ لمدرب ما وضع اليد لإصدار شهادة ملكية المنتخبات وكأنها مقيدة في وثيقة عدلية خاصة به.
سر انتفاضة عمو بابا
[post-views]
نشر في: 11 أكتوبر, 2014: 09:01 م