ضقت ذرعاً بمهنتي، أنا دفّان العصور القتيلة. فاجأني حشد التوابيت عند باب بيتي، والنعاس صورة الدفان قبيل فجر السلالات، ولم تكن الأرض إلا من أديم أجساد الجميع: القتلة والقتلى.. الجلادين والشهداء، بينما الأبناء يرممون الألم في قلب كل جدار. زهرة سوداء على صدر ذاك القبر البعيد وأخرى بيضاء على ياقة العريس في طريقه إلى انفجار الصباح العراقي.
مهنتي لم تعد كافية لبنفسج الخشب المحمول على أكتاف العصر الهزيل. إذ تلويحة الجميع للجميع خدعة المسافات التي تخشى الخيول.
الكلمات، أيضاً، فقدت إيحاءاتها القديمة وهي تركض في جنازات السنابل. وأمي خرجت من قبرها تستقبل الجميع بذراعين تسعانِ المواكب كلها. أكتب مرثية نفسي قبل أن أموت وبعد أن يئست من الشعراء الذين دفنتهم تباعاً ولم يبق أحد يستحق نبل دفني.
الوطن على هامش المقبرة وقصيدتي عمّةٌ فقدت عقلها بينما يمسح الناقد غبار الكلام العالق بجثث الكلام، والحشد يكبر والمشيعون يصغرون. قبور صغيرة لأطفال المساء. مساء صغير لقبر جارنا الذي بلا بيت. بيت صغير لقبر كبير يهتز تحت العاصفة.
لم تعد كلماتي تكفي لمراثي من أعرف ولا أعرف من الأشجار الخائفة والقناطر التي سقطت على الماء والنوافذ المفتوحة على الظلام والمدارس الفارغة من الطباشير والأرصفة الغارقة بالأمل، والمشاحيف الماشية على البر والتماثيل النائمة تحت الذباب والقصابين بعمائمهم السعيدة والزعماء الصاعدين على ظهور الأموال المنقولة وغير المنقولة والصحفيين وهم يرفلون بالأخطاء اللغوية ومقدمات البرامج اللواتي يحفظن الماكياج عن ظهر قلب والزعماء في بهجة الميكروفون العييّ، إذ كل ليلة أرق في فراش تلك المرأة عندما في ترتيب الفراش.
قبرٌ يلفُّك يا ضميراً ميتاً وقبرٌ يلفّك يا ميتاً بلا ضمير، الأرض تصعدُ نحو قبرك يا صديق المدرسة الابتدائية حيث الاحتفال الصباحي والعلم يصعدُ أيضاً ونحن نهبط تحت جلودنا اتقاء زمهرير المعلمين، ودرس الأمس هو درس اليوم: وقبر حربٍ في مكانٍ قفرِ.. وليس قرب قبر حربٍ قبرُ. القبور تقيم في المنافي أيضاً. قبرٌ للحرب وآخر للسلام.
القبور تنهض فجراً لتمضي إلى العمل، تصطف، هناك، تظاهرة كبرى ضدّ الحرب: من تحت الأرض تخرج الصرخات إلى فوق الأرض، تظاهرة قبور كبرى تجوب الشوارع الفارغة بينما لا أحد حيّاً في مدن الزلازل اليومية.
تكبر التظاهرة: ألف قبر كل صباح مفخخ، مليون جثة لكل دفان واحد.
تتقدم التظاهرة في فراغ المدن الفارغة وعليّ أن أقودها أنا الدفان الوحيد الذي لم يجد له قبراً ولا من يدفنه بعدُ.
تظاهرة قبورٍ ضد ضجر المرحلة، حيث تعود القبور مساء إلى قبورها تتبادل الشتائم وترفع أيديها إلى الله تدعوه إلى أن يوسع الأرض قليلاً لنتنفس.
لا نوافذ للقبور.
إننا نختنق يا إلهي. عباءات أمهاتنا لا تكفي لصناعة ظلّ واحد تحت شمسٍ التهبت خصيصاً لتحرق المجرّة، ولا دموعنا تتسع لقبر صغير نسيه الله بلا شاهدة.
لا أبواب للقبور.
القبور تتسلق الحواجز الكونكريتية وتتبادل التهاني في عيد الموتى اليقظين حتى الفجر.
قبرٌ ينفض الزمن عن ترابه.
قبرٌ لبغداد التي ابتلعت لسانها منذ سقوط الموت على قبور الأحياء.
قبرٌ لشاعر البلاط نديم جماجم الأعداء.
قبرٌ لخوف الطريق من خطى العابرين.
قبرٌ للعابرين الخائفين من الطريق.
قبرٌ للطريق الخائفة من نهاية الطريق.
قبرٌ للعالم يفكّك الحداثة ويؤلف دولة.
قبرٌ لهذا الدفّان الذي ينطق بنصف الحقيقة.
اعترافات دفّان
[post-views]
نشر في: 13 أكتوبر, 2014: 09:01 م