رسالة مفتوحة إلى وزير التعليم العالي الجديدأكتب هذه المقالة بشكل رسالة مفتوحة، ضمن مقالات عن التعليم العالي وجامعاته، بعد أن سبق لي نشر واحدة في هذه الجريدة قبل شهر تقريباً. وبعد أن كتبتُ تلك المقالة في ظل الوزارة السابقة والوزير السابق وفي مرحلة تشك
رسالة مفتوحة إلى وزير التعليم العالي الجديد
أكتب هذه المقالة بشكل رسالة مفتوحة، ضمن مقالات عن التعليم العالي وجامعاته، بعد أن سبق لي نشر واحدة في هذه الجريدة قبل شهر تقريباً. وبعد أن كتبتُ تلك المقالة في ظل الوزارة السابقة والوزير السابق وفي مرحلة تشكيل الوزارة الجديدة، أكتب هذه في فجر الوزارة الجديدة، وهي رسالة مفتوحة إلى الوزير الجديد، الأكاديمي الدكتور حسين الشهرستاني. في الواقع كنت قد عبرت، في مقالي السابق، عن حلم أو أحلامٍ بعهد جديد لا لوزارة التعليم العالي فقط، بل لوزارات الثقافة والتعليم عموماً، في ضوء ما شهده هذان الميدانان من تدهور غير مسبوق في تاريخ العراق الحديث، وكانت من معالم التدهور على مستوى الثقافة: تسلل الدخلاء في ظل وزير لا علاقة له بالثقافة، واستمرار هجرة المثقفين، ورداءة المطبوع العراقي، وعدم إصلاح البنية التحتية السيئة للمسرح، وانحسار التشكيل الذي عُرف طيلة تاريخه رائداً في الوطن العربي. أما على مستوى التربية فيكفي دليلاً على التدهور: دمار البنية التحتية المتمثلة بالأبنية المدرسية، والتسرب من المدارس، وأخيراً أن العراق صار ثالث أسوأ تعليم في المنطقة، بعد أن كان قبل التسعينات في طليعة بلدان العالم النامية. أما على مستوى التعليم العالي فالأمر بظني مُبكٍ على جميع المستويات، وهو ما أريد التوقف عنده وقفة عامة هنا، على أن يكون التفصيل موضوعات مقالات تالية.
كنت قد عبرت عن حلمي بعهد جديدة لوزارة التعليم العالي، بعد أن أبديت، ونحن نتلقى الشائعات والتسريبات المختلفة أيام مداولات تشكيل الكابينة الجديدة، تخوّفَي وخشيتي من بقاء حال الوزارة على وضعها. وبقينا بعد ذلك نعيش هكذا كابوساً حتى أطلّ علينا رئيس الوزراء الجديد حيدر العبادي ليعلن تشكيلة كابينته، وكان ضمنَها بعض تبشير بالتغيير في وزارة التعليم العالي، بتسمية الدكتور حسين الشهرستاني وزيراً جديداً لها. وقد كنت ولا أزال أعي جيداً أن تغيير الوجه أو الشخص غير كافٍ بالتأكيد، ولكن في حالة التغيير الحالي، فإن التغيير يكاد يكون نصف الحل أو على الأقل يستجيب لنصف الأمل، إذ هو يفتح باباً لم يكن للأمل أن يتحقق دونه. فحال هذا التغيير المتمثل في تسلم الشهرستاني الوزارة هو كحال العبادي مع الكابينة الجديدة. فمع اختلاف الرأي حول الوزير الجديد، ومع ما قد يكون هناك من آراء سلبية حوله، فإني أرى إيجابيتين كبيرتين، يجب أن تعزز أملنا فيه، وهما التغيير ذاته كما قدّمنا، وكون الوزير الجديد أكاديمياً قد يحيّد مثل هكذا سلبيات، إنْ وجدتْ. بعبارة أخرى أن الوزير الجديد قد لا يكون النموذج، ولكنه كفيل بإنعاش الآمال، وهو العالم، والأكاديمي، وصاحب التجربة الطويلة نسبياً. وهنا أتوجه إلى الوزير الجديد لأقول: كما أحيا العبادي الأمل فينا بتجاوز عهد المالكي، فإن تسلمكم الوزارة قد أحيا الأمل بتجاوز عهد الأديب.. فلا تجهض الأمل أرجوك. ومن المهم الإشارة هنا إلى أنني لا أنطلق، في موقفي من الوزير السابق والوزير الجديد، من منطلَق شخصي، بدليل أنني لم أتضرّر شخصياً من الوزير السابق ولا من رئيس جامعة ولا من عميد، لكنه الحرص على الأكاديمية التي هي، برأيي، قد تدهورت وكادت تُدمّر، الأمر الذي استدعى مسؤولاً جديداً يرى، والأهم يريد أن يرى الواقع، ليعمل على إصلاحه.
من هنا يأتي موقفي المتفهّم، الذي قد أختلف فيه مع آخرين، من أول خطوة سمعنا بأن الوزير الجديد يخطوها، وهي إجراء التغييرات في مناصب الوزارة. فصحيح أن مما يؤخذ على الإدارة العربية لمؤسسات الدولة أن كل مسؤول يتسلم منصباً جديداً فيها، يقوم بالتغيير المصحوب بإلغاء كل السابق، والبدء بسياسة جديدة وخطة جديدة ومسيرة جديدة، ما يشكل غالباً عائقاً للتطور والنمو. أقول صحيح أن هذا مما يؤخذ على الإدارة العربية لمؤسسات الدولة، لكنّ إجراء الشهرستاني لمثل هذا، وبشرط عدم المبالغة فيه، مبرَّرٌ تماماً ومعلَّلٌ بضرورة إزالة ما تركه سلفه من أضرار في هذا الجانب، حين قام بتصفية الوزارة من جُلّ كفاءاتها، على كل المستويات ولاسيما الأكاديمية، حين تخلّص من أفضل كفاءات الجامعات الأكاديمية وأهداها بكرم منقطع النظير لجامعات العالم والوطن العربي، وأبعد رؤساء جامعات وعمداء ومسؤولين آخرين، واعتمدَ، بدلاءَ عنهم، مسؤولين كباراً وصغاراً كانت مهامهم الرئيسة تنحصر في تنفيذ القرارات المركزية التي طالت كل شيء، وهو ما قاد إلى مصائب للتعليم العالي لعل آخرها ما آلت إليه كليتا الزراعة والطب البيطري، حين تمت التضحية بأحد أهم رموز جامعة بغداد والتعليم العالي في العراق، نعني أيقونة حرم الكليتين ذا التأريخ العريق.
وهكذا نشد على يديْ الدكتور حسين الشهرستاني، وننتظر منه، في هذه المقالة/الرسالة المفتوحة أن يعيد النظر في جميع إدارات التعليم العالي بما في ذلك: إدارات الوزارة، ورؤساء الجامعات، وعمداء الكليات، ونحن نعرف أن السياسة المركزية للوزارة خلال السنوات القليلة الأخيرة قد طالت كل ذلك وصولاً إلى الأقسام العلمية وغيرها من صغرى الوحدات الإدارية والأكاديمية. كما أن هذه المركزية غير العصرية، إذ قادت إلى هيمنة فئات من المسؤولين و(الأكاديميين) همّها التنفيذ لا الإبداع، والإدارة والكرسي لا الأكاديمية والعلم، فإنها قد قادت مباشرةً، أو عبر هؤلاء المسؤولين و(الأكاديميين)، إلى تضعضع الآلة الأكاديمية المتكونة من (المسؤول الأكاديمي، والأستاذ، والتلميذ، والآليات والسياقات التي تنتظمهم)، وفي النتيجة تراجع المستوى الأكاديمي وتبعاً لذلك التعليم العالي في العراق إلى ما نراه أسوء ما وصلا إليه في تاريخهما.
ومع أنني سأتناول بعض تفصيلات هذا كله في مقالات قادمة، إن شاء الله، أكتفي هنا بمثال هو بسيط جداً وربما لا يلتفت إليه البعض، لكنه يدلل على ما وصلت إليه رعاية الوزارة ورؤساء الجامعات وبقية المسؤولين، مثلاً، للعلماء والأساتذة، وعموم الأكاديميين. المثال هو كتاب لا أظن أحداً يتوقع صدوره من أصغر إدارة، لكنه في الواقع صادر عن رئيس جامعة بغداد بتاريخ 3/6/2014، وهو موجّه إلى عمادات الكليات والمعاهد كافة، ومركز التخطيط الحضري والإقليمي للدراسات العليا، والمراكز كافة. وفيما يأتي الجزء الأول منه:
"انطلاقاً من حرص جامعة بغداد على مواكبة الحداثة العلمية والسير بخطى متسارعة نحو حركة التطور العلمي على مستوى العالم بما ينسجم مع التطلعات والأهداف الاستراتيجية بهذه الجامعة للوصول بها إلى مصاف الجامعات العالمية الرصينة".
هنا أتوقف وأكاد أكون متأكداً من أن كلّ من يقرأ هذا سينتظر بشوق ليرى ما الذي ستفعله الجامعة ورئيسها ليرتفعا بجامعة بغداد "إلى مصاف الجامعات العالمية الرصينة"، على حد تعبير الكتاب، ونحن نعرف كم من المعوّقات وسلاسل الإجراءات التي تضعها الجامعة والوزارة، أصلاً، في طريق رُقي أساتذتها، على مستوى البحث العلمي وإقامة المؤتمرات والمشاركة في المؤتمرات الخارجية والرحلات البحثية وعدم احترام التخصصات الإنسانية، مما سنأتي عليها في المقالات التالية. حسناً لنرى الجزء الثاني من الكتاب، وهو الآتي:
"ارتأت الجامعة وفي خطوة منها لدعم وحثّ باحثيها المتميّزين والحاصلين على جوائز خارج العراق نحو تقديم الأفضل من خلال تكريمهم بالشكل الذي يتلاءم [كذا] مع ثقل ما قدموه"
وهنا، ومع أن هذه انتباهة نادرة من الجامعة والوزارة إلى مثل هكذا إنجازات لأساتذتها وعلمائها، فإن قارئ هذا الكتاب سيستبشر خيراً بالطبع فيتلهّف ليرى ما الذي سيقدمه رئيس الجامعة لـ"باحثيها المتميزين والحاصلين على جوائز خارج العراق"، على حد تعبير الكتاب، خصوصاً وأنه والجامعة يوعدان بتقديم ما "يتلاءم مع ثقل ما قدموه".. إذن لنرى ما الذي سيقدمه، وهو ما يعبر عنه الجزء الثالث من الكتاب وهو الآتي:
"فقد تنسب توجيه شكر وتقدير للباحثين الحاصلين على جوائز خارج العراق في دول عربية وعالمية (وعن كل جائزة)، فضلاً عن تحمّل الجامعة تكاليف تذكرة سفر التدريسي أو الباحث الحاصل على الجائزة ويعتبر هذا سياق عمل لعام 2014 وللأعوام التي تليه"
هنا صدقوني أنني حين قرأت هذا لم أستطع إلا أن أصيح تلقائياً: الله أكبر.. الله أكبر. ما هذا الإنجاز! وما هذا التكريم!؟. هل أنْ يقدّم رئيس الجامعة شكراً لعالم على ثُقْل ما يقدمه- على حد تعبير الرئيس نفسه- مقنع؟ بصراحة لو كنت أنا في مكان هذا العالم لاعتذرت عن تسلم هكذا شكر، لأنه برأيي يمس، بل يبخس أهمية هذا العالم وإنجازه.. خصوصاً والجامعة يُفترض بها أن تعرف جيداً، كما يُفترض بأي إنسان بسيط أن يعرف، أن الجهة المانحة للجائزة لا تتحمل نفقات سفر الحاصل على الجائزة فقط، بل نفقات سفر أسرته أيضاً في الغالب، ببساطة لأن مثل هكذا جهة تعرف قيمة هكذا عالم وقيمة إنجازه، مما لا تعرفه الجامعة، وربما التعليم العالي عموماً، مع الأسف.
إذ أتوقف عند هذا، على أن أتناول قضايا التعليم العالي المختلفة في مقالات تالية إن شاء الله، أسأل الوزير الجديد عن مثل هذا الذي سيراه يجري في الوزارة وجامعاتها: هل هذا يُعقل؟
جميع التعليقات 4
بسام الناشي
تشخيص صحيح للدكتور نجم وبارك الله به ولكن هل ننتظر التفير من الوزير الجديد وماذا ينتظر ونرجو ان يعلم حالة التهميش والابتعاد للمراتب العلمية المتقدمة في قيادة الكليات والاقسام العلمية فهل صحيح يكون شخص كان احد طلبة اساتذة احلاء في مناصب لايستحقوها نرجو ان
بسام الناشي
جريدة المدى الغراء انقل لكم ما ارسلته للسيد الوزير الجديد الدكتور الشهرستاني فهل من مجيب وكانت رسالتي بعنوان(عمداء الكليات الاهلية) يعتبر عميد الكلية الشخص الاول الذي يفترض ان يحمل مؤهلات علمية والقاب علمية تتناسب والتخصصات العلمية للكلية. وعلى هذا الا
د. نجم عبدالله كاظم
الأخ الأستاذ بسام الناشئ. شكراً على تعليقاتك، والأهم على ما تضيفه، , أعدك بأن آخذ كل هذه الملاحظات وغيرها في مقال أخير سأكتبه بعد الانتهاء من سلسلة مقالاتي عن مأساة التعليم العالي.. أكرر شكري.
د. نجم عبدالله كاظم
الأخ الأستاذ بسام الناشئ. شكراً على تعليقاتك، والأهم على ما تضيفه، , أعدك بأن آخذ كل هذه الملاحظات وغيرها في مقال أخير سأكتبه بعد الانتهاء من سلسلة مقالاتي عن مأساة التعليم العالي.. أكرر شكري.